جري التحمل ليس مجرد هواية لممارسي رياضة الماراثون المعاصرين، وليس مادة تناسب منشورات وسائل التواصل الاجتماعي فقط. تُبين دراسة جديدة نظر فيها العلماء في التاريخ الأنثروبولوجي لجري التحمل بهدف صيد الطرائد أن هذا النوع من الجري قد يتمتع بكفاءة طرق الصيد التقليدية الأخرى مثل البحث عن الطعام.
نُشرت الدراسة بتاريخ 13 مايو/أيار 2024 في مجلة نيتشر هيومان بيهيفيور (Nature Human Behaviour)، وتدعم نتائجها فرضية تحمل اسم "فرضية مطاردة التحمل". قال عالما الأنثروبولوجيا التطورية والمؤلفان المشاركان للدراسة، يوجين مورين من جامعة ترينت في كندا وبروس وينترهالدر من جامعة كاليفورنيا في مدينة ديفيس، لبوبساي: "يلاحظ الذين يمارسون الجري على نحو متكرر أن هذا النشاط يصبح سهلاً نسبياً عند ممارسته على نحو منتظم. من هذا المنطلق، ليس غريباً أن الجري منح أفضلية انتقائية في الصيد للأفراد الذين مارسوه".
اقرأ أيضاً: كيف تمارس رياضة الجري بطريقة صحيحة؟
ما فرضية مطاردة التحمل؟
اعتقد بعض علماء الأنثروبولوجيا في البداية أن الجري مسافات طويلة في مطاردة الطرائد كان سيشكل عبئاً على جسم الإنسان وأنه لا يستحق العناء. اعتقد هؤلاء أن المطاردة البطيئة هي الطريقة الأفضل للحصول على الطعام مع توفير القوة. تنص فرضية مطاردة التحمّل على أن قدرة الإنسان على الجري مسافات طويلة هي تكيّف ظهر قبل نحو مليوني عام.
يقول مورين ووينترهالدر: "على عكس الثدييات الأخرى، ويشمل ذلك الرئيسيات مثل الشمبانزي، يستطيع البشر التعرق بغزارة، كما أن عضلات أطرافهم السفلية اكتسبت سمة القدرة على التحمل وليس القوة. إذا كانت مطاردات التحمل بهدف صيد الطرائد المتوسطة إلى الكبيرة الحجم في البيئات الاستوائية ناجحة وموفّرة للطاقة، فمن المحتمل أنها اكتسبت أفضلية انتقائية بسبب المزيج الفريد من هاتين الصفتين، التعرق والقدرة على التحمل". مع ذلك، عدد الأوراق العلمية التي تصف استخدام البشر المعاصرين لمطاردات التحمّل هذه قليل. يعتقد العلماء عموماً أن الجري مسافات طويلة يتطلب استهلاك الكثير من الطاقة، ما يعني أنه لا يستحق العناء.
أفضلية في صيد الطرائد
درس مورين ووينترهالدر في بحثهما الجديد ما يقرب من 400 حالة موثّقة تعود إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين بهدف استكشاف دور جري التحمّل في الصيد. شملت هذه الحالات بعض الروايات المباشرة لمجموعات بدوية مختلفة مثل شعب إيفينكي في سيبيريا وشعب إينو في كندا وشعب مبوتي في جمهورية الكونغو الديمقراطية وشعب بيتجانتجاتجارا في أستراليا وشعب إنويت في ألاسكا وغيرها. كشف بعض هذه المصادر الإثنوغرافية أن الصيادين قطعوا أحياناً مسافات تتجاوز 99 كيلومتراً في مطاردة واحدة.
بالإضافة إلى مراجعة هذه الروايات، استخدم الباحثان النمذجة الرياضية للنظر في السيناريوهات المختلفة التي يمكن أن تحدث خلال المطاردات. غيّر الباحثان حجم الفريسة وسرعة الإنسان في ملاحقة الحيوانات (مشياً أو جرياً) والمسافة المقطوعة. بيّنت النماذج أن مطاردة التحمّل ذات السرعات الأعلى يمكن أن تزيد عوائد الطاقة في السياق الصحيح، وأن مكاسب السعرات الحرارية الناتجة عن جري التحّمل كانت مقاربة للمكاسب الناتجة عن طرق الصيد الأخرى.
اقرأ أيضا: جهاز جديد يولّد حقلاً كهربائياً يبعد أسماك القرش عن شباك الصيد
يقول مورين ووينترهالدر: "تمكّنا من إظهار أن الجري، أو مزيجاً من الجري والمشي، يمكن أن يتمتع بكفاءة عالية وأن البشر الجامعون للطعام مارسوه على نطاق واسع قبل العصر الحديث. باختصار، من المرجح أن مطاردات التحمّل وفّرت لأشباه البشر أفضلية تطورية في التنافس مع الحيوانات الآكلة اللحوم على الطرائد". تشير الدراسة إلى أن أشباه البشر في العصر الحديث الأقرب (قبل 2.6 مليون سنة إلى 11,700 سنة) اتبعوا هذا النوع من استراتيجية الصيد على الأرجح، وأنه من المحتمل أنها أدت دوراً في تطور الإنسان. مع ذلك، يؤكّد موران ووينترهالدر أن دراستهما لا تتناول الماضي التطوري للإنسان مباشرة لأنها تعتمد على روايات إثنوغرافية من التاريخ الحديث.
التحيّز الثقافي
فوجئ الباحثان بعدد حالات مطاردات التحمل الطويلة التي اكتشفاها في بيئات متنوعة، من التندرا الكندية الشديدة البرودة إلى جبال هاواي الأكثر رطوبة. كما لاحظا أن الدراسة تسلط الضوء على التحيز الثقافي في مجال الأنثروبولوجيا. يقول مورين ووينترهالدر: "بخلاف العدّائين المحترفين وأولئك الذين يمارسون رياضة الجري للترفيه، يميل الغربيون إلى اعتبار الجري 'شاقاً' و'مكلفاً' و'صعباً' وما إلى ذلك. في المقابل، تسلط بياناتنا الرصدية الضوء على مجتمعات السكان الأصليين التي شجعت الجري والصيد واعتبرتهما مهمين، غالباً للرجال والنساء والأطفال على حد سواء وفي السباقات والاحتفالات أيضاً".
يؤلف مورين ووينترهالدر حالياً ورقة بحثية أخرى حول مطاردات التحمّل تحتوي على المزيد من التفاصيل وتهدف إلى تحديد العوامل التي حفّزت الصيادين والمواسم التي شهدت قدراً أكبر من صيد التحمل. كما أنهما يعملان مع الباحثين المتعاونين، دوغ بيرد وريبيكا بليج بيرد من ولاية بنسلفانيا، على دراسة ستنظر في تقسيم العمل في الصيد.