ملخص: يتمتّع البشر بجهاز سمعي معقّد له تاريخ طويل ويؤدي دوراً بالغ الأهمية في جسم الإنسان، إضافة إلى أن الآذان نفسها تتمتع ببنية معقّدة للغاية نتجت عن ضغط انتقائي مكثّف استمر ملايين السنين وهدف إلى تحسين القدرة على السمع. مع ذلك، شحمة الأذن هي جزء من هذه البنية غامض للغاية؛ إذ يجهل العلماء منشأها والأسباب التطورية التي أدت إلى ظهورها، كما إنهم لا يعلمون الوظيفة التي تؤديها. ظهرت شحمات الآذان حديثاً نسبياً في السجل التطوري، وهي موجودة فقط لدى البشر والشمبانزي والغوريلا. من المحتمل نظرياً أن شحمة الأذن تؤدي دوراً في تنظيم درجة حرارة الجسم لأن الآذان تحتوي على الكثير من الأوعية الدموية، كما أشار بعض العلماء إلى أنها تطورت لتصبح منطقة حساسة جنسياً، ومن المحتمل أنها لا تؤدي أي دور وأنها نتيجة ثانوية لتطور أعضاء أخرى، كصيوان الأذن الذي يلتقط الأصوات.
في كل مرة تحرك فيها رأسك تفاعلاً مع لحن تحبّه أو تجري محادثة مع صديق، يعمل نظام معقّد في جسمك على جعل ذلك ممكناً. آذان البشر هي أعضاء حيوية عجيبة؛ إذ إن وظيفتها تنطوي على آلية معقدة للغاية. تقول عالمة البيولوجيا التطورية والأنثروبولوجيا البيولوجية وباحثة ما بعد الدكتوراة في معهد كونراد لورينز في النمسا، آن لو ميتر، لبوبيولار ساينس: "تتمتع الآذان ببنية معقدة جداً".
هذا التعقيد هو نتيجة ضغط انتقائي مكثّف استمر على مدى ملايين السنين وهدف إلى تحسين السمع. لكن ربما شحمات الآذان هي استثناء من هذا التعقيد العجيب؛ إذ يبدو أن بنيتها غير مفهومة مقارنة بأجزاء الأذن الأخرى العالية التكيّف. سنتحدث في هذا المقال عن الفرضيات التي وضعها العلماء لتفسير منشأ الأذن.
اقرأ أيضاً: ما أسباب طنين الأذن عند النوم أو الاستلقاء؟
قصة آذان البشر
تلتقط الأذن الصوت من العالم الخارجي عن طريق هياكل غضروفية تبرز من الرأس، وتنقله عبر قناة إلى طبلة غشائية ثم إلى سلسلة من عظام الأذن الوسطى الصغيرة وأخيراً إلى متاهة على شكل حلزون تحمل اسم "القوقعة" وتنقل النبضات العصبية إلى الدماغ. تشير لو ميتر إلى أن الثدييات تتمتع بآذان معقدة بصورة خاصة تحتوي على ثلاث عظام في الأذن الوسطى بدلاً من العظمة الوحيدة لدى الزواحف والطيور. بالإضافة إلى ذلك، تمتع الأذن لدى البشر بهيكل خارجي لا تتمتع به الفقاريات الأخرى، وهو الصيوان. كيف اكتسب البشر الآذان المعقدة لهذه الدرجة؟ الجواب، بالطبع، يكمن في التطوّر.
تقول لو ميتر إنه على مدى آلاف السنين، هاجرت أجزاء من عظام الفك لدى أسلافنا من غير الثدييات وانفصلت مشكّلة عظمتين من عظام الأذن الوسطى بالإضافة إلى العظم الذي يسند طبلة الأذن. تبيّن الحفريات التي اكتشفها العلماء في الصين ومناطق أخرى المراحل الأولى والأخيرة لهذه العملية التطورية التي مرت بها آذان ثدييات الشكل التي ماتت منذ زمن طويل على مدى العصر الطباشيري، والتي كانت بمثابة الأسلاف التطورية للثدييات الحديثة. تقول لو ميتر: "لاحظنا أشكالاً وسيطة مختلفة [بين الأنواع والحفريات المختلفة]، لكنّ ثمة نمطاً يتجه نحو شكل آذان الثدييات". تضيف لو ميتر قائلة إن الثدييات قادرة على سماع نطاق أوسع من الترددات مقارنة بأغلبية الفقاريات الأخرى بفضل هذه العظام الخاصة الناقلة للصوت والقوقعة الحلزونية الطويلة للغاية.
يقول الأستاذ المشارك في علم التشريح بكلية الطب في جامعة ويسترن أتلانتيك في جزر الباهاما، مارك كولمان، إن الآذان الخارجية لدى البشر، وهي عبارة عن أجزاء غضروفية جلدية رقيقة وبارزة، هي أيضاً فريدة من نوعها في الثدييات وتؤدي دوراً إضافياً مفيداً؛ إذ إنها تضخّم الأصوات وتمكننا نحن وأقاربنا من الثدييات من تحديد مصدرها. درس كولمان الأجهزة السمعية لدى الرئيسيات والثدييات، وقارن تكيّفات آذان الحيوانات المختلفة وارتباطها بالبنى.
يقول كولمان إن الأنواع المختلفة من الكائنات تمتلك آذاناً متخصصة لتحسس أنواع مختلفة من الأصوات. على سبيل المثال، تتمتّع الفئران الكنغرية بآذان وسطى كبيرة للغاية تتيح لها تحسّس الأصوات ذات الترددات المنخفضة جداً وتجنّب الحيوانات المفترسة مثل الأفاعي المجلجلة. يقول كولمان إن آذان البشر تشبه آذان الشمبانزي، لكن هناك اختلافات بسيطة تمنح أجهزة الشمبانزي السمعية القدرة على تحسس الترددات المرتفعة والمنخفضة بكفاءة أكبر، بينما تتمتع آذان البشر بالحساسية الأكبر للترددات في النطاق المتوسط، بين نحو 1,000 و4,000 هرتز.
تقول لو ميتر إن الحيوانات التي تعيش في بيئات متشابهة تكتسب غالباً آذاناً متشابهة. تميل الأنواع التي تعيش تحت الأرض إلى التمتّع بعظام أذن وسطى متشابهة على نحو ملحوظ عادة، بغض النظر عن درجة قرابتها، وينطبق ذلك على الثدييات المائية أيضاً. تقول لو ميتر: لاحظنا التكيف التقاربي عبر الثدييات".
تؤدي النتوءات على صيوان الأذن وظائف تطورت على نحو متخصص أيضاً. ترشّح هذه البروزات والانخفاضات الأصوات وتزيد دقة تحديد مصدرها. يشير كولمان إلى أن الحيوانات الصيادة الليلية مثل الخفافيش والرسغيّات تتمتع بآذان خارجية متعرجة بصورة خاصة تمكنها من اصطياد الحشرات في الظلام. على الرغم من أن آذان البشر بسيطة نسبياً، فإن الدماغ يجب أن يتكيّف مع آلية عملها عند تغيّر بنية الأذن الخارجية، أي إنه يجب أن يطور آلية جديدة لتحديد مصدر الصوت.
يقودنا ذلك كله إلى قضية غامضة نوعاً ما.
اقرأ أيضاً: ما هي أبرز مخاطر ارتداء سماعات الأذن؟ وكيف تحافظ على سلامة أذنك؟
شحمة الأذن: الاستثناء التطوري
يقول كولمان إن هذه القطع المتدلية من الأنسجة الناعمة غير الغضروفية ظهرت حديثاً نسبياً في السجل الحيواني، وهي موجودة فقط لدى البشر والشمبانزي والغوريلا. لم يكتشف علماء الأحياء أي غرض واضح لشحمة الأذن حتى الآن. يقول كولمان مازحاً: "أعتقد أن وظيفة هذه الأجزاء هي توفير مكان آمن لوضع الأقراط".
وفقاً لكولمان، تحتوي الآذان على الكثير من الأوعية الدموية، ما يعني أنه من المحتمل نظرياً أن شحمة الأذن تؤدي دوراً في تنظيم درجة حرارة الجسم، مثلما تساعد آذان الفيلة الضخمة هذه الحيوانات على تبريد أجسامها. مع ذلك، يشير كل من كولمان ولو ميتر إلى أن هذه الفرضية هي مجرد تخمين. من ناحية أخرى، اقترح سابقاً بعض العلماء مثل عالم الحيوان، ديزموند موريس، أن تكون شحمة الأذن قد تطورت لتصبح منطقة حساسة جنسياً لتسهيل الترابط بين الأزواج، لكن الأدلة المباشرة التي تبين أن هذا النوع من الاصطفاء الجنسي أثّر في بنية الأذن قليلة.
على عكس الأجزاء الأخرى من الأذن، تختلف شحمة الأذن كثيراً بين شخص وآخر. ربما تعلّمت في أحد دروس العلوم في المدرسة الثانوية أن هناك مجموعة واحدة من الأليلات يرثها الأبناء عن آبائهم تحدد إن كانت شحمات الأذن منفصلة أو متصلة. على الرغم من أن العلماء اكتشفوا أن هذا التفسير المبسّط على نحو مفرط غير صحيح، فإن شحمة الأذن لها بالفعل أشكال وأنواع مختلفة تتحكم بها الجينات. تقول لو ميتر إن هذا المستوى من التفاوت يشير إلى أن شحمة الأذن تتعرض لضغط أقل بكثير لتأخذ شكلاً محدداً وتؤدي وظيفة معينة مقارنة بالأجزاء الأخرى مثل عظام الأذن الوسطى العالية التكيّف.
بدلاً من ذلك، قد تمثل شحمات الآذان أدلة تبين أن التطور ليس عملية تصميم مثالية. تقول عالمة علم الإنسان القديم في جامعة هارفارد، بريدجيت أليكس: "ليست السمات جميعها التي تطورت هي سمات تكيّفية". هناك قيود فيزيائية وبيولوجية على الميزات التي قد تظهر. تؤدي العشوائية دوراً في عملية الانحراف الجيني التي تصبح وفقها مجموعة معينة من السمات مهيمنة في جماعة ما بالصدفة.
هناك أيضاً ما يسميه العلماء "الجسور القوسية" التطورية، وهو مصطلح ابتكره عالم الحفريات الشهير ستيفن جيه غولد يشير إلى المساحة المثلثية بين قوس كاتدرائية وسقفها. هذه المساحات ليست جزءاً متعمداً من المخطط بالضرورة، بل هي نتيجة ثانوية للميزة المعمارية المرغوبة، وهي القوس. تقول أليكس إنه على نحو مشابه، قد يكون بعض أجزاء الجسم نتيجة عرضية لتطور أجزاء أخرى. ربما تشكّلت شحمة الأذن بسبب تغيّر موقع غضروف ما في مكان آخر من الأذن أدّى إلى زيادة حدة السمع لدى البشر وتسبب بنشوء قطعة متدلية من اللحم عرضياً.
اقرأ أيضاً: 4 أسباب تدعو للتخلي عن استعمال العيدان القطنية لتنظيف الأذن
شحمة الأذن ليست المؤشر الوحيد الذي يبين أن عملية التطور غير مكتملة وقد تنطوي على الأخطاء أحياناً. تحتوي آذان البشر أيضاً على عضلات أثرية ورثناها عن أسلاف الثدييات تدوّر صيوان الأذن وتوجهه مثل القطط. على الرغم من وجود هذه العضلات، لا يستطيع معظم البشر تحريك آذانهم على الإطلاق، وهذه ظاهرة تشبه ظاهرة افتقار البشر للذيول على الرغم من وجود عظم العصعص. هناك أجزاء أخرى غير مفيدة من الجسم لا يعلم العلماء أصلها. تقول أليكس: "لا يعلم أحد لماذا تطور الذقن لدى البشر. هل نشأ هذا الجزء عن تطور تكيّفي، أم أنه ناتج ثانوي، أم أنه صدفة، أم ناتج عن الاصطفاء الجنسي؟" قد تفكّر في هذا السؤال كثيراً، لكن إجابته ما تزال مجهولة.