لماذا توقف العالم عن بناء الأبنية الكلاسيكية الجميلة؟

لماذا توقف العالم عن بناء الأبنية الكلاسيكية الجميلة؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Sopotnicki
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يغمر الإنسان شعور بالرهبة والجمال والعظمة إذا ما وقف محدقاً في الهندسة المعمارية الكلاسيكية، فالأبعاد المتناغمة والزخارف الخالدة والحرفيّة العالية في تصميم تلك الأقواس والقبب والجدران والهياكل تأسر القلب والعين. ثم في تناقض صارخ، إذا ما نظر في المدينة حوله، لا يرى إلا الأبنية الحديثة بخطوطها الواضحة وزواياها الحادة وأشكالها التكعيبية البسيطة. لماذا لم تعد العمارة الكلاسيكية شائعة في المدن على الرغم من الجمال الذي تضفيه على المكان؟ هل تغيُّر الأذواق العامة هو السبب أم التقدم التكنولوجي أم تغير أنماط الحياة؟ إليك بعض الأسباب التي قد تفسر ذلك.

اقرأ أيضاً: كيف يتم بناء السدود؟ وكيف تمنع تسريب الماء بعد 100 عام من إنشائها؟

كيف تطورت العمارة من الكلاسيكية إلى الحداثة عبر التاريخ؟

استلهمت الهندسة المعمارية الكلاسيكية (Classical Architecture) أسلوبها من تصاميم الأبنية اليونانية والرومانية القديمة في الفترة الممتدة ما بين 850 قبل الميلاد و476 ميلادي. حيث تميزت العمارة حينها بالأعمدة والأقواس والزخارف المعقدة، وكان هدفها إنشاء تصميمات متناغمة ودائمة تعكس مُثُل الجمال والنظام آنذاك.

تطورت العمارة مروراً بالحضارة البيزنطية التي استخدمت الطوب بدلاً من الحجر واستلهمت بعضاً من طرز العمارة الإسلامية، واعتمدت على الأسقف المدببة والفسيفساء المتقنة، وتحولت لاحقاً إلى ما سُمي بالعمارة الرومانسكية (Romanesque Architecture)، ثم العمارة القوطية (Gothic)، التي استخدمت أكتاف التدعيم والأقبية المضلعة والأقواس المدببة والزجاج الملون.

كاتدرائية نوتردام دي شارتر أحد الأبنية الكلاسيكية القوطية في فرنسا
كاتدرائية نوتردام دي شارتر أحد الأبنية الكلاسيكية القوطية في فرنسا. حقوق الصورة: shutterstock.com/ EBASCOL

وعلى الرغم من أن العمارة الكلاسيكية اختلفت من حيث التسمية والتصميم قليلاً في كل حقبة تاريخية مرت بها، وأُعيد إحياؤها لاحقاً في عصر النهضة، فقد بقيت محافظة على تصميماتها الزخرفية الأنيقة، حتى وصل الزمن إلى القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فتغيرت تغيراً جذرياً وباتت تُعرف بالعمارة الحداثية (Modernism Architecture). تميّزت العمارة الحداثية التي اكتسحت العالم بعد الحرب العالمية الأولى بتصاميم هندسية بسيطة ذات خطوط أفقية وأسقف مسطحة، مع الحد الأدنى من الزخرفة أو غيابها التام، والميل نحو اللون الأبيض أو الألوان المحايدة.

ولم تتوقف العمارة عن التطور هنا؛ إذ ظهرت مع أواخر القرن العشرين حركة جديدة في التصميم سُميت بالحداثة الجديدة أو العمارة البارامترية (Parametricism Architecture)، وهو أسلوب معماري متطور يستخدم أدوات التصميم الحسابية المتقدمة والخوارزميات من أجل بناء هياكل تتميز بأشكال معقدة فريدة من نوعها وغير تقليدية. ومن أشهر المهندسين الذين اتبعوا هذا الأسلوب، المهندسة العراقية الراحلة زها حديد، ومن أشهر تصميماتها مركز حيدر علييف في أذربيجان.

مركز حيدر علييف في أذربيجان
مركز حيدر علييف في أذربيجان. حقوق الصورة: shutterstock.com/ Elnur

اقرأ أيضاً: ما سر صمود أبنية حضارة المايا؟

لماذا لم نعد نشيّد أبنية كلاسيكية؟

في حين أن العمارة الكلاسيكية تحمل تراثاً غنياً وجاذبية جمالية خالدة، فمن الضروري الاعتراف بأسباب الاتجاه المعاصر بعيداً عن تشييد المباني الكلاسيكية؛ مثل:

تغيُّر القيم الجمالية

في العصور القديمة وعصر النهضة، غالباً ما كانت الهندسة المعمارية تخدم احتياجات النخبة أو المؤسسات الدينية، مع التركيز على العظمة والرمزية. ومع تطور المجتمعات، تطورت التفضيلات الجمالية وبدأ يُنظر إلى الأسلوب الكلاسيكي، بتناسقه الرسمي وتفاصيله المزخرفة، على أنه مرتبط بالسلطة والتقاليد، ما دفع المهندسين المعماريين إلى التعبير عن الروح الديناميكية للعصر من خلال تصميمات أكثر مرونة واستدامة، ورفض الزخرفة المتقنة والتحرك نحو البساطة والابتكار. 

الحاجة المتزايدة لإيواء الناس

شهد القرن العشرين اضطرابات ثقافية وسياسية كبيرة، حيث دفعت الحروب العالمية والتحولات المجتمعية برامج الإسكان إلى الابتعاد عن الأشكال العمرانية الكلاسيكية نحو تصميم أبنية موحدة ضخمة لمعالجة أزمة الناس، وهو ما أدى إلى حل الأزمة بفعالية، ولكن على حساب الجاذبية الجمالية للمباني. واليوم، ما زالت الحاجة إلى حلول إسكانية فعالة وقابلة للتطوير ملحة مع استمرار النمو السكاني المتزايد والتوسع الحضري، وهو ما يدفع المهندسين المعماريين المعاصرين إلى إعطاء الأولوية لتصميم أكبر عدد ممكن من المباني العملية والميسورة التكلفة على حساب إنفاق الأموال على الزخرفة.

الشكل يتبع الوظيفة

في العمارة الكلاسيكية، لم يكن لغرض المبنى بالضرورة تأثير قوي في تصميمه، في حين قدمت العمارة الحديثة فكرة مفادها أن مظهر المبنى ينبغي أن يُستمَد من وظيفته. فليس من الضروري أن تبدو المدرسة أو المستشفى أو المصنع مثل قصر إيطالي. هذا ما جعل الهندسة المعمارية الحديثة تتجه نحو البساطة والتصميم المتوازن ونقص الزخرفة. فضلاً عن أن المباني الكلاسيكية، بأعمدتها المحددة وتناسقها الصارم، قد تشكل تحدياً في استيعاب المتطلبات المتنوعة للحياة الحديثة ومساحات العمل.

ظهور مواد البناء الجديدة

أعقب ظهور الثورتين الصناعية والتكنولوجية حدوث تغيرات عميقة في أساليب البناء ومواده؛ إذ كانت مواد البناء الأساسية قبل مطلع القرن العشرين مقتصرة على الطوب والحجر والخشب، في حين سمحت مواد البناء وأساليبه الجديدة، مثل الخرسانة المسلحة والأطر الفولاذية والزجاج المنتج بكميات كبيرة والحديد، بتشييد مبان أكبر وأكثر جرأة من الناحية الهيكلية.

اقرأ أيضاً: لماذا لا يمكننا بناء محطة فضائية على القمر؟

اعتبارات اقتصادية 

قد تتطلب الهندسة المعمارية الكلاسيكية، مع تركيزها على الحرفيّة والتفاصيل المعقدة، المزيد من العمالة والمهارات المتخصصة، ما قد يسهم في ارتفاع تكاليف البناء والصيانة. في حين تتطلب الأبنية الحديثة عمليات بناء أسرع وتكاليف أقل. 

اعتبارات رأسمالية

يمكن أن يعزى انتشار الأبنية الحديثة المتشابهة إلى تأثير الرأسمالية، التي تعتبر الإسكان سلعة تُباع وتُشترى لا مجرد مساحات للعيش، ولا بد من تحقيق أقصى الأرباح منها.

التقدم التكنولوجي

توفر تقنيات البناء المتقدمة تصميمات مبتكرة لم تكن ممكنة أو عملية ضمن قيود العمارة الكلاسيكية، حيث تتكامل أنظمة البناء الحديثة، مثل التدفئة والتهوية وتكييف الهواء والإضاءة والتقنيات الذكية، بسلاسة مع الهياكل المعاصرة، ما يعزز الكفاءة والاستدامة. بالإضافة إلى أن ظهور التصميم بمساعدة الحواسيب ونمذجة معلومات البناء قد أحدث ثورة في الهندسة المعمارية، فهو يسمح بالتخطيط الدقيق وتقليل الأخطاء وتحسين كفاءة البناء. في المقابل، قد تواجه التصاميم الكلاسيكية، التي تعتمد غالباً على المهارات اليدوية، تحديات في التكامل مع هذه التقنيات بسلاسة.

تركيز التصاميم الحديثة على الراحة والصحة

قدمت الحداثة مفهوماً جديداً مفاده أن المباني، سواء كانت منازل أو مساحات تجارية، يجب أن تعطي الأولوية للراحة والصحة. فأدى هذا إلى الابتعاد عن التصاميم الكلاسيكية، التي تتميز بنوافذ صغيرة وغرف عديدة والانعزال ما أمكن عن الطقس والطبيعة، إلى ظهور الغرف الفسيحة والإضاءة الوفيرة والاتصال بالهواء الطلق والمساحات الخضراء. ومع تقدم الفهم العلمي للأمراض والنظافة والتغذية في القرن العشرين، دمج المهندسون المعماريون ميزات التصميم التي تتماشى مع هذه الأساسيات الصحية لتصميم مساحات تعزز الرفاهية والراحة.

اقرأ أيضاً: لماذا لم يسقط برج بيزا المائل حتى الآن؟

التخطيط الحضري المرتكز على الطرق والسيارات

صُممت المباني الكلاسيكية لتناسب حياة المشاة مع التركيز على الأماكن العامة والترابط فيما بينها، في حين أثر ظهور السيارات ووسائل النقل الحديثة كثيراً على التخطيط الحضري، إذ تخرّب الطرق السريعة ومواقف السيارات تجربة الجمال المعماري.