تبدو فكرة أن الدم يدور عبر الجسم وكأنها مفهوم شائع وحتى بديهي. مع ذلك، استغرقت الفكرة التي تنص على أن القلب هو العضو الذي يضخ الدم والأوكسجين عبر الشرايين ويعيد الفضلات عن طريق الأوردة أكثر من ألفي عام لتتطور. أحدثت هذه الفكرة عند إثباتها ثورة في علوم الحياة وفتحت العديد من المجالات في الطب الحديث. من حيث الأهمية، تصنّف هذه الفكرة مع الأفكار الفلسفية التي وردت في مدونات أرسطو، والتي وضعت أسس العلوم الحيوية ونظرية داروين في الانتقاء الطبيعي.
مثل هذه الأفكار، كان تطوير فكرة دوران الدم جهداً منفرداً إلى حد كبير ابتدعه وبدأه وأكمله فرد واحد وهو الطبيب الإنجليزي ويليام هارفي. نشر هارفي اكتشافه في عام 1628 كمجلد صغير بعنوان تمارين تشريحية حول حركة القلب والدم في الحيوانات (والذي اسمه الأصلي في اللاتينية هو Exercitatio anatomica de motu cordis et sanguinius in animalibus)، والذي يختصر عادة إلى حول حركة القلب. لم يعش هارفي خلال تأليفه هذا المجلد واحدة من أعظم المغامرات الطبية في التاريخ فقط، بل عانى من انعدام الأمن والضعف اللذين يميزان التجربة البشرية. هارفي هو رجل ينتمي لكل العصور.
ما هو دوران الدم
دوران الدم كما نفهمه اليوم هو نظام مزدوج. إذ إنه يتألف من دورتين، تمتد الأولى عبر أجزاء الجسم المختلفة (وهي الدورة الجهازية)، بينما تمتد الأخرى عبر الرئتين (وهي الدورة الرئويّة). تدعى هاتان الدورتان بهذا الاسم لأن الدورة كلمة ترمز لشيء ينتهي في نفس النقطة التي بدأ منها. وموضوع هذا الكتاب هو اكتشاف كل دورة منهما. يعتبر القلب أيضاً تجميعاً لقلبين ينجزان مهمّتين مختلفتين بانسجام. تدفع حجرة القلب اليمنى الدم إلى الرئتين بينما توزّعه الحجرة اليسرى إلى الأعضاء الأخرى والأطراف.
نظراً لاكتشاف أن حركة الدم الذي يعتبر أساسياً للحياة تتعلق بشكل وثيق بالتنفس والحفاظ على درجة حرارة ثابتة للجسم، فقد اندمجت هذه العمليات الثلاث لتكمن في صميم علم الفيزيولوجيا الجديد. لذلك، فإن فكرة دوران الدم تتعلق أيضاً بتطوير نظرية حرارة الحيوانات والفيزيولوجيا المبكرة للتنفس.
اقرأ أيضاً: ما هي أفضل الأوقات للتبرع بالدم قبل وقوع الكارثة؟
كان اكتشاف دوران الدم ثورياً في تاريخ علوم الحياة. إذ إنه مهّد لاتباع طريقة كميّة جديدة في التفكير ولّدت المزيد من الابتكارات في التعامل مع الأمراض والتي لم يكن ليتطور الطب الحديث كما نعرفه لولاها. وضع وصف هارفي الهيدروليكي للدم الذي يدور والذي بناه على وجود مضخات وأنابيب حجر الأساس لتطوير نظام ميكانيكي قابل للقياس الكمي لفيزيولوجيا القلب والأوعية الدموية أدى إلى الطريقة الكمية الحديثة التي نتبعها عند التفكير في ظواهر مثل سرعة الدم ومقاومة الأوعية الدموية وضغط الدم والموجات النبضية وما إلى ذلك، فضلاً عن التغيرات الكمية لهذه الظواهر في ظل الظروف المرضية الفيزيولوجية المختلفة وتأثيرات السرعات والضغوط غير الطبيعية على أعضاء الجسم.
إذا كان الدم يدور، فسيولّد ذلك العديد من الأسئلة التي يجب أن تتم الإجابة عنها. ما هو الهدف من دوران الدم؟ ما الذي يحمله الدم عند تدفقه بهذه الطريقة ولماذا يحمله؟ متى حصل الدم على المواد التي يحملها ومن أين حصل عليها؟ كيف يفقد الدم هذه المواد وأين يحصل ذلك ولماذا؟ كشفت إجابات هذه الأسئلة عن صورة مفهومة للطريقة التي يعمل وفقها جسم الإنسان وأرست أساساً فيزيولوجياً للممارسات الطبية الحديثة.
كان التحليل الصحيح لحركة القلب على أنه مضخة ميكانيكية لا أكثر تقذف الدم في الأوعية عند كل انقباض ابتكاراً أساسياً ضرورياً في عمل هارفي.
تبع ذلك توسيع وتعديل الآليات التي تعمل وفقها الأمراض المختلفة. تعني حقيقة أن الدم يدور في جميع أنحاء الجسم أن الأمراض يمكن أن تنتج ليس فقط من وجود اختلالات في توازن المزيج الداخلي كما كان يُعتقد حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولكن أيضاً بسبب العوامل الخارجية الضارة التي يمكن أن تدخل مجرى الدم وتنتقل إلى جميع الأنسجة. كنتيجة طبيعية، يمكن أن تنشأ بعض الأمراض من قصور في التروية الدموية للأعضاء الحيوية بسبب انسداد داخل القنوات الشريانية، بما في ذلك القلب والدماغ، ما أدى إلى توصلنا لفهم كيفية حدوث النوبات القلبية والسكتات الدماغية والتي لا تزال الأسباب الرئيسية للعجز والوفاة في يومنا هذا.
لم يكن بالإمكان ابتكار بعض العلاجات التي تستخدم اليوم مثل الحقن الوريدي (والذي يعتمد عليه العلاج الكيميائي) أو الحقن تحت الجلد (مثل حقن الأنسولين) أو حتى بخاخات الأنف للحساسية إلا بعد أن تم فهم أن المواد التي تدخل مجرى الدم في موقع واحد أو حتى المواد التي يتم استنشاقها سيتم نقلها إلى كل الجسم لأن الدم يدور. تتطلب التدخلات الروتينية مثل قثطرة القلب ووضع الدعامات داخل الشرايين وتعويم أقطاب أجهزة تنظيم ضربات القلب وإزالة الرجفان عبر الأوردة تدفقاً أحادي الاتجاه للدم داخل الأوعية الدموية إما إلى داخل حجرات القلب أو لخارجها تماماً كما وصفه هارفي.
تعد آلية عمل أجهزة الدعم المنقذة للأرواح مثل وحدات غسيل الكلى وكذلك أجهزة القلب والرئة التي تسمح بإجراء جراحات القلب المفتوح تمديداً لمفهوم الدورة الدموية ولكن خارج الجسم. وتعتمد أجهزة مساعدة القلب (القلوب الاصطناعية) التي تنقذ الأرواح أثناء المرض الحاد الشديد والتي يمكن استخدامها كبدائل للخضوع لعملية زراعة القلب أيضاً على نموذج الدورة الدموية.
إحدى النتائج الحاسمة لاكتشاف هارفي الرائد هي فهمنا الحالي لحالة فشل القلب الصحية، والتي تعد التشخيص الأكثر تكلفة في المستشفيات بالنسبة للأشخاص الذين يزيد عمرهم على الـ 60 عاماً. لا تتعامل العلاجات المعاصرة لهذه الحالة مع القلب على أنه مضخة معطّلة فحسب، ولكنها تعالج أيضاً العيوب الكيميائية المنتشرة عبر الجسم والتي تتسبب بتلف عضلة القلب.
اقرأ أيضاً: اكتشاف رائد يحسن من فرص نجاح عمليات زراعة الأعضاء
الاكتشاف العلمي هو مفهوم معقّد للغاية. وقدم فيلسوف العلوم الأميركي توماس كون ما يمكن القول إنه أفضل وصف له. وفقاً لكون، تبدأ عملية الاكتشاف العلمي بإدراك وجود تناقض ما في توقعاتنا للطريقة التي يجب أن يعمل وفقها جانب من جوانب الطبيعة. يأتي بعد ذلك استكشاف موسع لتلك الحالة الشاذة. ولا ينتهي التقدم إلا عندما تصبح المعرفة الجديدة نفسها واضحة. يتم بعدها تعديل الحالة الطبيعية لهذا الجانب ليتم شمل هذه المعرفة الجديدة ويحدث ما يسميه كون النقلة النوعية.
نظرية دوران الدم: نقلة نوعية نحو التطور الطبي
كانت فكرة دوران الدم إحدى هذه النقلات النوعية. في حالة نظرية دوران الدم التي وضعها هارفي، لم يكن بالإمكان تعديل الفرضية التي سادت لـ 1500 سنة (وهي النموذج الغاليني)، بل كان يجب استبدالها تماماً. تصور الطبيب الروماني غالينوس أن الدم يتدفق ذهاباً وإياباً في الأوعية، مثل المد والجزر. تخيل غالينوس وجود نظامين منفصلين من الأوعية، الأوردة والشرايين، ينشآن من عضوين مختلفين هما الكبد والقلب ويقوما بتوصيل الدم إلى جميع أجزاء الجسم. استبدل اكتشاف هارفي الثوري هذه المعتقدات التي أصبحت قديمة بحقائق جديدة.
اقرأ أيضاً: إنجاز نوعي قد يلغي استخدام الأدوية المثبطة للمناعة بعد زرع الأعضاء
إحدى سمات عملية الاكتشاف العلمي أيضاً هي تقدّم العلم من خلال التشبيهات. إذ إن بعضها كان يسد الطريق للحقيقة، بينما كان بعضها الآخر يمهّده. أسرت التشبيهات المفكرين منذ العصور القديمة واستخدموها لوصف حقائق الطبيعة. يتخلل كل من تشبيه تدفق الدم بمد وجزر البحر القاتم الذي وصفه الشاعر الإغريقي هوميروس ومقارنة أرسطو لنظام الأوعية الدموية بقنوات الري وكذلك التشابه بين الحياة والتنفس أو الاحتراق جميع النصوص الطبية، من أعمال غالينوس إلى بويل. اخترع غالينوس مفهوم القدرة الطبيعية على الجذب في الجسم واستوحاه من جذب المغانط للحديد.
بينما اعتمد الفيلسوف اليوناني إمبادوقليس الذي عاش في صقلية على طريقة عمل الساعة المائية المصرية ليتحدّث عن نظريته الجديدة حول فيزيولوجيا القلب والجهاز التنفسي. كما اعتمد الطبيب إيراسيستراتوس الذي عاش في الإسكندرية على ظاهرة الطبيعة تكره الفراغ (أو horror vacui، والتي تعني في اللاتينية الخوف من الفراغ) ليفعل الشيء نفسه.
بينما يقارن الفيلسوف الفرنسي ديكارت التخمّر في عضلات القلب باشتعال الحطب. أخيراً، بحث هارفي عما يرضيه في فلسفة أرسطو عن الدوائر، ووجد تأكيداً لوظيفة القلب كمضخة ميكانيكية في أعمال المهندس الفرنسي إسحق دي كاوس عن مضخات إطفاء النار الميكانيكية. شمل عمل هارفي نقلتين نوعيتين متزامنتين، وهما آلية تقلّص القلب ودوران الدم.
كان التحليل الصحيح لحركة القلب على أنه مضخة ميكانيكية لا أكثر تقذف الدم في الأوعية عند كل انقباض ابتكاراً أساسياً ضرورياً في عمل هارفي. قبل هارفي، كانت العملية المقبولة التي تصف وظيفة القلب والتي وصفها أرسطو تتضمن تخميراً للدم بالحرارة داخل القلب يتسبب في تمدد هذا العضو وتدفّق الدم إلى داخل الشريان الأبهر مثل انسكاب الحليب المغلي خارج الإناء الموجود فيه.
اقرأ أيضاً: للمرة الأولى: علماء يكتشفون وجود جزيئات بلاستيكية دقيقة في دم الإنسان
أتى التطوير الذي توّج اكتشاف هارفي خلال الثورة العلمية في القرن السابع عشر، وهي حقبة اتسمت بأنها "واعدة ولكن مصحوبة بخيبة للآمال وسادها الصمود مصحوباً باليأس". ربط التطوير الإضافي لأفكار هارفي مجموعة من العقول العظيمة وبعض الشخصيات الأكثر غرابة في مجال العلوم في بريطانيا، ومنهم جون لوك وكريستوفر رين وروبرت هوك وهنري كافنديش وجوزيف بريستلي وأقرانهم الاسكتلندي جوزيف بلاك والكيميائي الشُّكوكي الأنجلو أيرلندي روبرت بويل مع علماء الكيمياء من جامعة أوكسفورد بالإضافة إلى الأوروبيين الفرنسيين رينيه ديكارت وأنطوان لافوازييه.
قام هؤلاء جميعاً بدحض المفاهيم الخاطئة التي تراكمت خلال ألفي عام من دراسة الفيزيولوجيا. وقف هؤلاء بدورهم على أكتاف الرواد المنسيين الآن للثورات الفكرية الأيونية والأثينية والإسكندرانية القديمة مثل ألكمايون الكروتوني (أي من مدينة كروتونيه الإيطالية) وديوجانيس الأبولوني (أي من مدينة أبولونيا في صقلية الإيطالية) وأبقراط وبراكساغوراس (كلاهما من جزيرة كوس اليونانية) وأمبادوقليس الصقلي والإسكندرانيّان هيروفيلوس وإيراسيستراتوس والروماني غالينوس والذين ساهموا في فهمنا للعالم الطبيعي الموجود داخلنا. أدّى كل من أفلاطون وأرسطو دوراً كبيراً أيضاً. ومثل أي شيء آخر، بدأت هذه القصة مع هوميروس مع مد وجزر بحره القاتم.