لماذا لا نتذكر طفولتنا المبكرة؟ أدلة جديدة في لغز الذاكرة

3 دقيقة
توليد الصورة بمساعدة "بكسلر" بإشراف محرر مجرة

ما هي أقدم ذكرى يمكنك تذكّرها؟ في حين أن ذكريات الكثير من الناس عن الماضي قد تمتد إلى مرحلة الطفولة، تُظهر الأبحاث أن رحلة استعادة الذكريات عادة ما تصل إلى طريق مسدود بمجرد بلوغ مرحلة الطفولة. وفي بعض النواحي، لا يبدو هذا الأمر منطقياً إلى حد ما، ففي نهاية المطاف، السنوات الأولى من حياة الطفل هي المرحلة التي يتعلم فيها المفاهيم النفسية الأساسية، ويكوّن علاقات مع مقدمي الرعاية، ويكتسب فيها إحساساً بالذات.

لطالما أرجع الخبراء هذا "الفقدان للذاكرة عند الأطفال الرضّع" إلى الجدول الزمني لنمو الحُصين أو قرن آمون (hippocampus)، وهي منطقة الدماغ المسؤولة عن الاحتفاظ بالذكريات. ولكن وفقاً لأدلة جديدة من فريق في جامعة ييل، قد يكون تفسير كتل الذاكرة المبكرة لدينا أكثر تعقيداً بعض الشيء. يولّد البشر ذكرياتهم خلال الأشهر الأولى من حياتهم، ولكن أين تذهب تلك الذكريات؟

اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: زيادة تعليمك تمدُّ في عمرك فكيف يحدث ذلك؟

 أين تذهب ذكرياتنا المبكرة؟

فصّل الباحثون عملهم في دراسة نُشرت في 20 مارس/آذار في مجلة "ساينس" (science). لبدء تجربتهم، عرض العلماء على مجموعة من الأطفال الرضع سلسلة من الصور الجديدة قبل أن يختبروها لاحقاً لمعرفة إن كانوا يتذكرونها. يُعد التعرف على صورة من الماضي مثالاً على الذاكرة العرضية. أما بالنسبة إلى البالغين، فيمكن لهذه الذاكرة أن تتذكر أحداثاً محددة، مثل مشاهدة مباراة رياضية أو قضاء إجازة. لكن تقييم قدرات الذاكرة العرضية يكون أكثر صعوبة عندما يكون هناك حاجز واضح جداً يعوق التواصل بين البالغين ومجموعة من الأطفال الرضع.

قال أستاذ علم النفس ومدير معهد وو تساي (Wu Tsai Institute) في جامعة ييل والمؤلف الرئيسي للدراسة، نيك تورك-براون، في بيان مصاحب للدراسة: "إن السمة المميزة للذكريات العرضية هي أنه يمكنك وصفها للآخرين، ولكن هذا الأمر غير وارد عندما تتعامل مع أطفال رضع قبل أن يتمكنوا من النطق".

وبدلاً من محاولة تعلم لغة الأطفال، عمد الفريق إلى تسجيل نشاط الحُصين خلال مرحلتي الاختبار باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). أظهرت النتائج أن الطفل الرضيع بدا أكثر عرضة لتذكر صورة ما إذا كان نشاط الحصين أكبر خلال التعرض الأول. كما فحصوا أيضاً الإشارات الجسدية للطفل الرضيع لمزيد من التأكيد.

قال تورك-براون: "إذا سبق للأطفال الرضع رؤية شيء ما لمرة واحدة فقط، فمن المتوقع أن يمعنوا النظر فيه أكثر عندما يرونه مجدداً. لذا، في هذه المهمة، إذا حدّق الرضيع في الصورة التي رآها من قبل أكثر من الصورة الجديدة المجاورة لها، فقد يُفسر ذلك على أنه يدرك أنها مألوفة".

توافق سلوك الأطفال الرضع مع فحوص الرنين المغناطيسي الوظيفي. كل طفل رضيع أظهر الحصين لديه نشاطاً أكبر في أثناء النظر إلى صورة معينة لأول مرة، كان ينظر إليها لفترة أطول عندما رآها مرة أخرى في وقت لاحق. وفي الوقت نفسه، فإن الجزء الخلفي من الحصين الذي أضاء هو المنطقة نفسها المرتبطة بمخازن الذاكرة العرضية عند البالغين. وظهر الدليل الأقوى على ذلك لدى الأطفال الرضع الذين كانوا في سن 12 شهراً أو أكثر، ما يشير إلى جدول زمني لكيفية تطور الدماغ في هذه السنوات القليلة الأولى.

اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: وسائل التعليم الورقية تتفوق على الرقمية في تعليم الأطفال

التعلم الإحصائي يظهر في مرحلة مبكرة من حياة الطفل

وقد كشفت دراسة سابقة أجراها فريق تورك-براون أن الأطفال الرضع يُظهرون ما يُعرف باسم التعلم الإحصائي في مرحلة مبكرة من حياتهم؛ أي في سن 3 أشهر تقريباً. على الرغم من أن الذاكرة العرضية لها خصوصيتها، فإن التعلم الإحصائي يتعلق بمفاهيم أكثر شمولية، مثل فهم شكل المبنى أو التقاليد التي يُحتفل بها في أعياد معينة. ويعتمد كل منهما أيضاً على مسارات عصبية منفصلة في الحصين. وبدمج هذه النتائج مع النتائج التي توصلوا إليها مؤخراً، أصبح لدى الباحثين تصور أفضل عن التطور من تكوينات التعلم الإحصائي المبكرة للطفل الرضيع إلى تطور الذكريات العرضية. ووفقاً لتورك-براون، فإن هذا الأمر منطقي للغاية.

قال تورك-براون: "يتعلق التعلم الإحصائي باستخراج بنية العالم من حولنا. وهذا أمر بالغ الأهمية لتطور اللغة والرؤية والمفاهيم وغير ذلك. لذا، من السهل أن نفهم لماذا قد يظهر التعلم الإحصائي في وقت أبكر من الذاكرة العرضية".

تفسيرات محتملة لمصير الذكريات المبكرة

لكن السؤال الأكبر لا يزال قائماً: ماذا يحدث لهذه الذكريات الأولى في حياتنا؟ يعتقد تورك-براون أن هناك تفسيرات متعددة محتملة، بما في ذلك النظرية القائلة بأن هذه الذكريات لا تصل أبداً إلى مناطق التخزين الطويلة الأمد في الدماغ. ومع ذلك، يعتقد المؤلف الرئيسي للدراسة أن هناك سبباً آخر أكثر ترجيحاً: تبقى تلك الذكريات مرمزة في أدمغتنا، لكننا ببساطة لا نستطيع الوصول إليها. وهذا ما يأمل الفريق استكشافه في المستقبل.

وقال تورك-براون: "نحن نعمل على تتبع متانة ذكريات الحصين عبر مرحلة الطفولة، وبدأنا نفكر في الاحتمال المتطرف والخيالي تقريباً بأنها قد تستمر بطريقة ما في مرحلة البلوغ، على الرغم من عدم إمكانية الوصول إليها". 

المحتوى محمي