لطالما استحوذ على خيال القدماء. سماه اليونانيون "الفضة السائلة"، فسطحه لامع ولونه فضي وحركته سريعة، وسماه الإنجليز "ميركوري" تيمناً بذلك الإله الروماني رشيق الحركة ميركوريوس رسول الآلهة بين بعضها، واعتقد الكيميائيون الهندوس القدماء أنه جوهر كل المعادن الأخرى. أمّا العرب، فسموه "زئبقاً"، وقد وجدت آثاره في مقابر مصرية عمرها 3500 عام. واليوم، لا يزال هذا العنصر يثير الحيرة، فتراه يُصنف معدناً، ولكنه يأبى أن يتصلب كالمعادن في درجة حرارة الغرفة على الأقل. فلماذا إذاً يُصنف الزئبق معدناً؟ ولماذا هو سائل عند درجات حرارة الغرفة؟
لماذا يُصنف الزئبق معدناً؟
في عام 1812، ابتكر عالم المعادن الألماني فريدريش موس مقياساً تقريبياً يصنف المعادن حسب صلابتها، أي مقاومة سطحها الأملس للخدش أو التآكل، ولكن الزئبق في درجة الحرارة والضغط القياسيين لا يبدو أنه صلب على الإطلاق، فلماذا يعتبر معدناً؟
بدايةً، ما هي المعادن؟ أو لنقل متى يُصنف عنصر ما على أنه معدن؟ المعدن (الفلز) هو أي عنصر يتميز بمجموعة محددة من الخصائص، وهي الموصلية الحرارية والكهربائية العالية، والقابلية للطرق (يمكن طرقه إلى صفائح) والقابلية للسحب أو اللدونة (يمكن سحبه إلى سلك)، والانعكاسية العالية للضوء. وفي معظم الحالات، تكون المعادن عبارة عن مواد صلبة ذات بنية بلورية بسيطة نسبياً.
اقرأ أيضاً: أضواء تتراقص في السماء ليلاً: كيف تحدث ظاهرة الشفق القطبي؟
ما يميز المعادن أيضاً هو أنها تفقد الإلكترونات الخارجية بسهولة نسبياً وتكتسبها بصعوبة، وذلك لأنها تتمتع بطاقة تأين منخفضة (طاقة التأين بشكل مبسط هي الطاقة اللازمة لفصل إلكترونات التكافؤ من ذرة موجودة في الطور الغازي)، وإلفة إلكترونية منخفضة (الإلفة الإلكترونية أو التقارب الإلكتروني بشكل مبسط هو ميل ذرات العنصر لتقبل الإلكترون). بالإضافة إلى ذلك، تمتلك المعادن عدداً قليلاً نسبياً من إلكترونات التكافؤ ويمكنها أن تفقد هذه الإلكترونات بسهولة لتكوين كاتيونات موجبة الشحنة.
وبالنسبة للزئبق، وعلى الرغم من تصنيفه كمعدن انتقالي، فهو يشبه باقي المعادن الرئيسية، فهو قابل للسحب والطرق (في حالته الصلبة) وموصل للحرارة، وله معامل تمدد عالٍ، إذ يتمدد ويتقلص حتى مع التغيرات الطفيفة في درجات الحرارة. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي ذرات الزئبق على إلكترونات يمكن أن تنفصل بسهولة نوعاً ما فتتحول هذه الذرات إلى كاتيونات موجبة، بالتالي فهو موصل للكهرباء شأنه شأن باقي المعادن، لكن موصليته الكهربائية أقل من باقي المعادن. بالإضافة إلى ذلك، فإن موصليته الكهربائية في حالته السائلة أي عند درجة حرارة الغرفة أضعف قليلاً مما تكون عليه في حالته الصلبة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تنتقل الكهرباء لاسلكياً؟
إذا كان الزئبق معدناً فلماذا ليس صلباً كالمعادن؟
يكون الزئبق عند درجة حرارة الغرفة والضغط القياسي سائلاً بسبب سلوك إلكتروناته التكافؤية، إذ وفي معظم المعادن الأخرى، فإن الذرات تتشارك إلكترونات التكافؤ بسهولة مع بعضها بعضاً مشكّلةً روابط معدنية قوية، وذلك لأن إلكترونات التكافؤ الموجودة في المعادن تكون غير موضعية، أي أنها قادرة على التجول بحرية نسبية بين الذرات، بحيث تصبح الذرات التي تركتها الإلكترونات عبارة عن كاتيونات موجبة، ويؤدي هذا التفاعل بين الكاتيونات الموجبة وإلكترونات التكافؤ إلى نشوء قوة التماسك أو الارتباط التي تربط البلورات المعدنية.
اقرأ أيضاً: ما هي الجسيمات دون الذرية؟
أما بالنسبة للزئبق، فذراته لا تتخلى عن إلكتروناتها بتلك السهولة، بل تبقى تدور حول النواة بإحكام أكثر من المعتاد، ما يجعل طاقة الروابط بين ذرات الزئبق ضعيفة، ولا يتطلب الأمر سوى القليل من الحرارة فقط للتغلب على هذا الارتباط الضعيف، والتسبب في حركتها العشوائية وسيولتها.
أما لماذا لا تحب ذرات الزئبق مشاركة إلكتروناتها، فالسبب يعود لاحتواء ذراته على الكثير من الإلكترونات والبروتونات ونتيجة الطريقة التي تنتظم بها إلكتروناته حول النواة. فالعدد الذري للزئبق هو 80، أي أن ذرة الزئبق تحتوي على 80 إلكتروناً سالب الشحنة، و80 بروتوناً موجب الشحنة (تتجمع البروتونات في النواة)، وبسبب هذه الشحنة الكهربائية الموجبة الكبيرة للنواة، فإنها تمارس قوة جذب كبيرة على الإلكترونات. بالإضافة إلى ذلك، فإن إلكترونات التكافؤ في ذرات الزئبق تشغل المدار s6 وهو مدار عالي الاستقرار، ما يصعّب على الذرات اكتساب أو فقدان الإلكترونات بسهولة.
اقرأ أيضاً: ما الفرق بين الأمبير والفولت ومن أين أتت هذه التسميات؟
ختاماً، يبدو وكأن الزئبق ضحية حرب بين الفيزياء والكيمياء. على كل الأحوال، ربما بات واضحاً الآن لماذا يُصنف الزئبق معدناً، على الرغم من أنه لا يتصلب مثل المعادن. يشار إلى أن الزئبق يتصلب (يتجمد) عند درجة حرارة -38.83 درجة مئوية، ويغلي عند درجة حرارة تبلغ 356.6 درجة مئوية.
وما يميز الزئبق أيضاً، أنه لا يبلل الزجاج أو يتشبث به، وهذه الخاصية بالإضافة إلى تمدد حجمه السريع والمنتظم في حالته السائلة، تجعله مفيداً جداً في موازين الحرارة. وعلى الرغم من ذلك، فقد استبدلت موازين الحرارة الزئبقية بموازين إلكترونية في أوائل القرن الحادي والعشرين، بسبب سمية الزئبق الشديدة من جهة، ودقة الموازين الإلكترونية العالية من جهة أخرى.