لنحتفِ بالقديم: هذا الجهاز القديم للتنبؤ بالزلازل قد يكون الأفضل في العالم

5 دقائق
لنحتفِ بالقديم: هذا الجهاز القديم للتنبؤ بالزلازل قد يكون الأفضل في العالم
على أطراف متنزه جبال سموكي العظيمة الوطني، تمتلك بلدة صغيرة في ولاية تينيسي أعجوبة تكنولوجية ساهمت في الأبحاث الجيولوجية والنووية لنحو 50 عاماً. ديبوزيت فوتوز

في أعماق تحت الأرض في تاونسيند بولاية تينيسي، مخبأةً في زاوية مظلمة من كهف متشعب على مرمى حجر من منتزه "جبال سموكي العظيمة" الوطني، توجد أعجوبة تكنولوجية داخل أعجوبة طبيعية: AS107، إنه أحد أجهزة قياس الزلازل الأكثر حساسية في العالم، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق.

يأتي إلى الكهف آلاف الزوار شهرياً، وإذا كنت من بينهم، ربما لن تدرك حتى إنه موجود هناك. الجهاز عبارة عن صندوق معدني لا يلفت النظر موضوع على رف صخري طبيعي بعيداً في الظلال خارج مسار المشي الرئيسي. الدليل الوحيد على وجود مثل هذه الآلة الحساسة في الممرات المظلمة هي محطة القراءة المتصلة به التي تسجل البيانات بصمت في زاوية مركز الزوار.

لكن محطة "تاكاليشي" (Tuckaleechee) ليست مجرد منطقة جذب سياحية لعشاق الجيولوجيا وحسب، بل إنها عصب مراقبة النشاط الزلزالي في الولايات المتحدة وأداة مهمة من أدوات الأمن القومي والدولي.

لنحتفِ بالقديم: هذا الجهاز القديم للتنبؤ بالزلازل قد يكون الأفضل في العالم
لماذا وُضع جهاز قياس الزلازل في كهف تاكاليشي؟ إنه مكان هادئ وبعيد عن أمواج المحيط المزعجة، والحجر الجيري هناك صلب ونقي. كهوف تاكاليشي

البحث عن الكهف المثالي

قام الطفلان، بيل وهاري مايرز، بالدخول إلى أعماق الكهف لأول مرة في الثلاثينيات، حاملين معهما الفوانيس وروح المغامرة. وبفضلهما، تحول الكهف اليوم إلى نقطة جذب سياحي. لكن مالك الكهف، بنجامين فاناندا، وهو رجل محب للجيولوجيا وذو لهجة جنوبية وأحد أحفاد عائلة فاناندا، يقف اليوم خلف مكتب الاستقبال مستعداً ومتحمساً للتحدث عن أي شيء متعلق بالزلازل، بما في ذلك جهاز قياس الزلازل.

يُعرف الصندوق الموجود داخل الكهف، حسب أي من المؤسسات التي كانت تراقب البيانات التي يجمعها، باسم (SEISMICTKL) أو (AS107)، حيث يشير الاسم الثاني إلى الأحرف الأولى من (Auxiliary Seismic Station 107) أو "محطة الزلازل الإضافية 107"، وقد حُذف حرف "S" منه اختصاراً. يقول فاناندا: «لدينا تدفقات البيانات الأكثر اتساقاً من أي محطة رصد أخرى للزلازل، ويسجل الجهاز حتى أضعف الهزات الأرضية شدة».

مثل معظم أجهزة قياس الزلازل، يلتقط جهاز AS107 الانزياحات التكتونية ويسجل البصمة الترددية الفريدة لكل حدث. ولكن كيف يقوم بذلك؟ نظراً لأن الموجات الزلزالية تنتقل في دوائر متحدة المركز حول الكوكب، كلما ابتعدت عن المركز، كلما انخفض التردد الذي يمكن لجهاز قياس الزلازل تحسسه. على سبيل المثال، سيتم تسجيل زلزال حدث في إندونيسيا على أنه تردد منخفض على جهاز قياس الزلازل في تينيسي، الأمر الذي من شأنه، خصوصاً عند مقارنته بقراءات أجهزة قياس الزلازل الأخرى في جميع أنحاء العالم، المساعدة في تحديد مكان نشوء الزلزال.

يشبّه فاناندا موجات الزلازل بالتموجات التي تراها عندما ترمي حجراً في بركة ماء: كلما ابتعدت التموجات عن المركز، اتسعت أكثر وانخفضت شدتها لتتبدد في النهاية. نظراً لأن جهاز AS107 حساس جداً، فإنه يستطيع التقاط تردد أمواج المحيط التي قد تتحطم على أحد الشواطئ في الصين. ستكون ضعيفة جداً، لكن سيتم تسجيلها.

كما اكتشف الجهاز بعض الاضطرابات القريبة، مثل الانزلاقات الأرضية المحلية والتفجيرات التي تُجرى في مقالع الحجارة، بالإضافة إلى الأصوات والاهتزازات الغامضة التي حدثت في عام 2018 في ماريفيل بولاية تينيسي، والتي تشير بعض المصادر إلى أن زلزالاً صغيراً كان وراءها. على نطاقٍ أوسع، يمكن للجهاز اكتشاف التجارب والتفجيرات النووية في أي مكان في العالم.

ومع ذلك، لم تُبنَ محطة الزلازل في تاكاليشي كمحطة لمراقبة الأنشطة النووية في البداية. تم تركيب الجهاز الأول في عام 1978 عندما أرادت سلطة وادي تينيسي مراقبة كيفية تأثير المياه التي أزاحتها السدود المشيدة حديثاً على الصفائح التكتونية في المنطقة.

كُلف جريج شتاينر وجيم زولويغ، واللذان يعملان في مركز معلومات الزلازل بولاية تينيسي (TEIC)، والذي يُدعى الآن "مركز أبحاث ومعلومات الزلازل"، باختيار موقع للمحطة الأولى. فاختارا كهوف تاكاليشي بعد رحلة استكشافية شاهدا خلالها إعلاناً لجذب السياح إليها بالقرب من فندقهما.

يتذكر شتاينر ما قاله حينها: «سيكون الكهف مكاناً مثالياً». لم يكن هناك الكثير من محطات الرصد في شرق ولاية تينيسي في ذلك الوقت، وسيوفر الكهف قراءات أكثر دقة لأنه محمٍ من الرياح التي تُعد مشكلة بارزة في أبالاتشي. كما أن موقع المحطة تحت الأرض سيسمح بعزلها عن تأثير حركة المرور أو البناء حولها.

اقرأ أيضاً: داخل العالم الخفيّ لأجمل الكهوف على الأرض

بحلول الوقت الذي تم فيه الانتهاء من إعداد المحطة بالكامل وتوصيلها، أدرك فريق مركز معلومات الزلازل كم كان الموقع مثالياً لإنشائها. وكما يستذكر شتاينر ويقول زولويغ: «يا له من مكان هادئ! لم أرَ مكاناً بهذا الهدوء من قبل»

الكهوف عميقة بما يكفي لتقليل تأثير الضوضاء التي يصدرها الإنسان من المصانع والسكك الحديدية والطرق السريعة، على الرغم من عدم وجود أي منها بالقرب منها. علاوة على ذلك، ثُبّت جهاز قياس الزلازل على الصخر الأساس القديم المكون من الحجر الجيري، والذي يوفر قراءة واضحة للنشاط الزلزالي مع أصداء ممتازة وعدم تبديد الاهتزازات الزلزالية. كما يتميز الموقع بأنه بعيد عن الساحل، الأمر من شأنه عزل تأثير الرياح والأمواج على البيانات.

كما أن الحرارة في الكهف مناسبة وثابتة دائماً. تقول بولينا بيتنر، محللة الموجات الزلزالية لدى معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، موضحةً: «تم تثبيت الجهاز الحساس ومحول البيانات الرقمي في محطة تاكاليشي داخل كهف درجة الحرارة فيه ثابتة عند نحو 15 درجة مئوية على مدار العام، وهو أمر مفيد لدقة القياسات الزلزالية، حيث يُعتبر التغيّر في درجة الحرارة مصدراً للضجيج يؤثر على الجهاز».

البحث عن الكهف المثالي
يبدو جهاز AS107 متواضعاً جداً، لكنه يحمل تاريخاً طويلاً من العمل. كهوف تاكاليشي

تطور جهاز قياس الزلازل

كانت محطة تاكاليشي الأصلية عبارة عن مسجّل مؤلف من أسطوانة من الورق وإبرةٍ تحفر أثراً عليه يمثل النشاط الزلزالي. عندما يحدث الزلزال، تحفر الإبرة المعدنية المثبتة في الإطار سجلاً لحركتها على ورقة مغطاة بالسخام، تسمى الورق المدخن.

لكن تبين أن تواجد مالكي الكهف، فاناندا ومايرز، واللذان كانا يعملان على جمع القراءات ومعالجتها وإعداد الجهاز ونقله بشكلٍ منتظم، كان يمثل مشكلة في الواقع. فعلى الرغم من أنها لم تكن مهمة صعبة، كانت الكهوف تُفتح من عيد الشهداء إلى عيد العمال فقط، أي لم يكن هناك أحد ما خارج هذا الوقت ليقوم بإضافة السخام إلى الورق وتغيير أسطوانة القراءة وإرسال البيانات بالبريد إلى جامعة تينيسي. لذلك كان مايرز يقوم بنقل الجهاز إلى حفرة في الفناء الخلفي لمنزله في الوقت الذي لا تكون الكهوف مفتوحة للزوار.

تم استبدال مقياس الزلازل بمقياسٍ آخر يعتمد على تكنولوجيا القلم والحبر. لم يكن دقيقاً، ولكنه كان يستغرق وقتاً أقل لإعداده وتشغيله. كان عبارة عن نظام أحادي المكون يقيس فقط حركة النشاط التكتوني صعوداً وهبوطاً. اشترى مركز معلومات الزلازل عام 1981 خط هاتف مخصصاً فقط لإرسال القراءات بشكل مستمر إلى الجامعة.

بعد أن تولت جامعة تينيسي في نوكسفيل مهمة مراقبة البيانات في عام 1995، تمت ترقية تكنولوجيا جهاز قياس الزلازل مرة أخرى. كانت الأداة الجديدة، والذي تدعى كاشف النطاق العريض، قادرةً على تضخيم الترددات العالية للزلازل البعيدة. لاحظ الجيولوجيون المحليون مدى هدوء الموقع وأوصوا منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بأخذ قراءات المحطة فيه بعين الاعتبار.

كانت حكومة الولايات المتحدة حريصة على مراقبة التجارب النووية للدول الأخرى. في حزيران/ يونيو عام 2006، تم اعتماد المحطة ثلاثية المكونات المحدثة (التي تستخدم 3 نواسات لقياس النطاق الكامل لحركة الموجات الزلزالية في الاتجاهات الرأسية والأفقية، أو في الفضاء ثلاثي الأبعاد) وربطها بنظام الرصد الدولي الذي يتكون من شبكةٍ عالمية من محطات المراقبة. منذ ذلك الحين، كانت المحطة ترسل البيانات باستمرار -كل 300 جزء من الألف من الثانية- عبر الأقمار الصناعية إلى حكومة الولايات المتحدة ومنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وغيرها.

مَن يراقب مقاييس الزلازل؟

نتيجة لذلك، أصبحت هذه المحطة مهمة جداً للأمن الدولي. وفقاً لبيتنر، يتم استخدام الكثير من البيانات للكشف عن الانتهاكات المحتملة لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وتحديد موقع هذه الأحداث، وتوصيف مصادرها الزلزالية للمساعدة تلقائياً في استبعاد الأحداث الطبيعية مثل الزلازل.

كانت محطة تاكاليشي الأصلية عبارة عن مسجّل مؤلف من أسطوانة من الورق وإبرةٍ تحفر أثراً عليه يمثل النشاط الزلزالي.

ويقول بيتنر إن بيانات AS107 ساهمت في اكتشاف 450 حدثاً وتحديد موقع 100 حدث بدقة أكبر خلال العام الماضي. كانت 3 من تلك الأحداث عبارةً عن تجارب نووية أعلنت كوريا الشمالية عنها في عامي 2016 و2017.

يمكن أن تساعد البيانات الزلزالية لمحطة تاكاليشي أيضاً الجيولوجيين في تقييم البنية الداخلية للأرض والمخاطر التي تنشأ عنها، وذلك من خلال رسم خرائط الخطورة للزلازل. يمكن للمحطة أيضاً الكشف عن الزلازل الصغيرة وتسجيلها من مسافة تزيد على 1600 كيلومتر، الأمر الذي من شأنه مساعدة العلماء والجيولوجيين وعلماء الزلازل على معرفة المزيد عن هذه الأحداث الطبيعية، بالإضافة إلى تحذير المجتمعات المعرضة للخطر من أمواج تسونامي الوشيكة.

كل ذلك من كهف متواضع في ولاية تينيسي.

المحتوى محمي