بينما تبحث المركبة «برسفيرنس» عن أدلة على وجود حياة سابقة على المريخ، يبحث العلماء على الأرض مجدداً في مدى صعوبة بقاء الكائنات الحية هناك. وفقاً لدراسةٍ جديدة؛ نُشرت في دورية «فورنتيرز إن ميكروبيولوجي»، يُعتبر المريخ غير مضياف للحياة عموماً، ولكن السؤال الذي بقي معلّقاً منذ زمنٍ طويل: إلى أي مدىً يمكن أن يكون المريخ مؤهلاً للحياة، وهل يمكنه استضافة أي شكلٍ من أشكالها؟ لمعرفة الإجابة؛ أطلق فريق بحثي من علماء متخصصون في الأحياء الدقيقة وعلوم أخرى بعض الميكروبات في طبقة الستراتوسفير (إحدى طبقات الجو العليا) لاختبار مدى صمودها في بيئةٍ تحاكي بيئة كوكب المريخ، لمعرفة ما إن كان يمكنها العيش على المريخ.
بكتيريا في الهواء
في تفاصيل الدراسة التي نُشرت في 22 فبراير/ شباط الماضي، أطلق فريق البحث الدولي التابع المشترك من وكالة ناسا ومركز الفضاء الألماني عيناتٍ من البكتيريا والفطريات في منطقة متوسطة من طبقة الستراتوسفير فوق نيومكسيكو؛ حيث اختبروا استجابة الميكروبات لمجموعة من الظروف الشبيهة بتلك الموجودة على المريخ. وضع الفريق الخلايا البكتيرية وجراثيم العفن في حاوية تجريبية مطورة حديثاً؛ دُعيت «مارس بوكس» (اختصار لعبارة «تعريض الميكروبات في الغلاف الجوي لتجربة الإشعاع ورصد النتائج البيولوجية لتلك التجربة»)، ثم رُمي هذا الصندوق في الهواء على ارتفاع 38 كيلومتر في الهواء من رحلة المنطاد العلمية التابعة لوكالة ناسا؛ التي جرى إطلاقها عام 2019.
تقول «مارتا كورتيساز»؛ أحد المشاركين في الدراسة، في بيانها: «بعض الميكروبات -ولا سيما جراثيم فطر العفن الأسود- تمكنت من النجاة من الرحلة، حتى عند تعرضها للأشعة فوق البنفسجية الشديدة».
قدرة البكتيريا على العيش على المريخ
في الواقع، لقد تناولت دراسات سابقة قدرة البكتيريا على البقاء في بيئاتٍ أرضيةٍ مشابهة لبيئات المريخ القاسية الأخرى؛ مثل وديان «ماكموردو» الجافة في القطب الجنوبي، لكن طبقة الستراتوسفير توفّر «مزيجاً فريداً» من الظروف البيئية القاسية التي تشبه تلك الموجودة على المريخ؛ مثل مستويات الإشعاع الشديدة، والجفاف، ودرجات الحرارة الحدية، وانخفاض الأكسجين.
اختار الباحثون بعض الميكروبات؛ مثل نوعين من الكائنات وحيدة الخلية المسماة «اكستريموفيل»؛ أو ما يُعرف بـ «أليف الظروف القاسية»؛ والتي تعيش في ظروف بيئية قاسية للغاية مشابهة للظروف القاسية الموجودة على المريخ (مثل الينابيع الساخنة، وتحت الغطاء الجليدي، وتحت ضغوطٍ عالية أو في درجات الحرارة الشديدة)، وقد أُخذ أحدهما من أعماق البحر الأحمر شديد الملوحة؛ ويُعرف بـ «إس. شابانينسيس»، بينما شملت الميكروبات الأخرى بكتيريا من نوع «إس. كابتيس»؛ التي تعيش على جلد الإنسان، بالإضافة إلى أحد أنواع فطر العفن الأسود الشائع «أسبليجيرس نايجلس»، وقد عُثر على كليهما على محطة الفضاء الدولية بالصدفة. يقول «ديفيد سميث»؛ عالم الأحياء الفضائية في مركز أبحاث أميس التابع لناسا، والمؤلف المشارك في الدراسة: «لقد استكشفت الدراسات السابقة قدرة البكتيريا على العيش على المريخ، لكننا لا نعرف إلا القليل عن الفطريات».
تحضيراً لرحلة الكائنات الحية هذه، قام الباحثون بتجفيفها على أقراصٍ في البداية، ومن ثم تحميلها في حاويةٍ أصغر ضمن حاوية «مارس بوكس» الأساسية. بالإضافة إلى ظروف الضغط المتطرفة في الستراتوسفير؛ توّفر تلك الحاوية الأصغر، ظروفاً مشابهةً لظروف الضغط والغازات على المريخ، ووفقاً لسميث؛ فقد صُممت الحاوية لتسمح بمرور الإشعاع إلى داخلها، وتكون محكمة الإغلاق لمنع تسرّب الكائنات إلى الخارج.
استمرت التجربة ما يزيد قليلاً عن 5 ساعات، وربما كانت التجربة يوماً عصيباً للغاية بالنسبة الميكروبات الصغيرة. يقول سميث: «أيمكنك تخيل يومٍ شديدٍ الحرارة على الشاطئ دون استخدام الواقي الشمسي؟ كان وضع الكائنات الحية في الحاوية أصعب».
وجد الباحثون أن فطر العفن الأسود كان شديد المقاومة لجميع الظروف التجريبية. يقول «كاليب شارف»؛ عالم الأحياء الفضائية في جامعة كولومبيا، وغير مشارك في الدراسة، في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني لنا: «في الواقع، هناك مخاوف قديمة حول «التلوث الأمامي» -وهو انتقال الحياة وأشكال التلوث الأخرى من الأرض إلى الأجرام الفلكية- في الفضاء؛ وكوكب المريخ على وجه الخصوص. إذا لوّثت الكائنات الحية الأرضية المرّيخ، فقد يؤدي ذلك إلى تعقيد جهودنا لاستكشاف أشكال الحياة الأصلية الموجودة هنا. قد نفسد نظام كوكب المريخ الهش إذا نقلنا الميكروبات الأرضية إلى هناك بالخطأ، إنها قضية معقّدة بالفعل».
ويضيف قائلاً: «تقدم الدراسة رؤية كمّية حول أنواع الملوثات التي يجب أن نركّز عليها؛ فإحدى المشاكل التي تحاول الدراسة استكشافها، هي أن الكائنات الحية المرتبطة بالبشر لم يسبق لها السفر إلى المريخ في السابق، ونحتاج إلى معرفة كيفية بقائها على المريخ وتأثيرها على رواد الفضاء أيضاً، وبالطبع، ستكون هناك عوامل أخرى مؤثّرة؛ مثل كيمياء سطح المريخ».
وفقاً لمؤلفي الدراسة، فإن بيئة حاوية «مارس بوكس» توفر بيئةً تجريبيةً مثاليةً بالفعل، وتؤكّد النتائج على «أهمية تضمين الفطريات» في الدراسات والسياسات المستقبلية؛ التي يُحتمل فيها حدوث التلوّث الأمامي على المريخ. تقول «كاترينا سيمز»؛ المؤلفة الرئيسية المشتركة في تصريحها: «يمكن أن يساعدنا هذا المجال من البحث على فهم المخاطر الصحية التي قد تشكلّها الكائنات الحية الدقيقة على روّاد الفضاء، وبالإضافة إلى ذلك، إدراك أهمية بعضها في إنتاج المواد الغذائية بعيداً عن كوكب الأرض؛ وهو الأمر الذي قد يكون حاسماً في الرحلات المستقبلية إلى المريخ».
يقول سميث أخيراً: «لقد أعطتنا هذه الدراسة 4 أمثلةٍ حول كيفية استجابة الميكروبات الأرضية في ظروفٍ تشبه ظروف المريخ، ولكن كما تعلم، ما زال أمامنا الكثير لنفهمه حول هذا الأمر».
اقرأ أيضاً: ما سر كل هذا الاهتمام في كوكب المريخ؟
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً