للنظائر المشعة العديد من التطبيقات المفيدة. ففي الطب مثلاً، يستخدم نظير الكوبالت (كوبالت-60) كمصدر إشعاع لوقف تطور السرطان، ويستخدم نظير اليود (يود-131) في علاج فرط نشاط الغدة الدرقية، وغيرها. وفي الصناعة أيضاً، تستخدم النظائر المشعة من مختلف الأنواع لقياس سماكة الصفائح المعدنية أو البلاستيكية، أو في فحص الأجزاء المعدنية المُصنّعة بحثاً عن العيوب الهيكلية وغيرها. فماذا إذاً عن استخدامات النظائر المشعة في البيئة؟ هل لها من فوائد؟
ما هي النظائر المشعة؟
النظائر النشطة إشعاعياً (Radioactive isotopes) وتسمى أيضاً بالنظائر المشعة (Radioisotopes) أو النويدات المشعة (Radionuclides) هي ذرات للعنصر الكيميائي نفسه، بحيث تحتوي نوى ذرات نظير العنصر على عدد البروتونات نفسه الموجود في العنصر الأساسي، بالتالي يكون له سلوك كيميائي متطابق، في حين أن ذرات نظير العنصر تحتوي على عدد نيوترونات في أنويتها يختلف عن عدد النيوترونات الموجود في ذرات العنصر الأساسي، بالتالي، يكون له نشاط إشعاعي مختلف عن العنصر الأساسي، فهي تبدد الطاقة الزائدة عن طريق انبعاث تلقائي للإشعاع على شكل أشعة ألفا وبيتا وغاما.
يمكن القول إن النظير المشع هو الشكل غير المستقر من العنصر، الذي ينبعث منه الإشعاع ليتحول إلى شكل أكثر استقراراً. يحتوي كل عنصر كيميائي على واحد أو أكثر من النظائر المشعة، وثمة أكثر من 1000 نظير مشع معروف للعناصر الكيميائية المختلفة، عُثر على ما يقارب الخمسين منها في الطبيعة، بينما يتم إنتاج المتبقي بشكل صناعي، كمنتجات مباشره لتفاعلات نووية أو بشكل غير مباشر كأسلاف مشعة لهذه المنتجات.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تساعد المواد الوراثية المحفوظة في فهم الأنظمة البيئية القديمة؟
ما استخدامات النظائر المشعة في البيئة؟
استخدام النظائر المشعة في تتبع مصادر تلوث المياه الجوفية
تؤدي تقنيات التعقب بالنظائر المشعة دوراً أساسياً في اكتشاف الملوثات في المياه الجوفية وتحليلها، نظراً لسهولة اكتشاف الكميات الضئيلة من نظائر مشعة معينة، كما يمكن استخدام هذه التقنيات في تحديد مصادر التلوث المختلفة التي تلوث المياه الجوفية، وهو أمر مهم جداً من أجل حماية صحة الإنسان وتحقيق الاستدامة البيئية، خصوصاً أنه وفي معظم الحالات ينتج تلوث المياه الجوفية، وخصوصاً في البلدان النامية، عن مجموعة من مصادر التلوث غير المحددة بالضبط، مثل رشح الأسمدة المفرطة، والنفايات السامة من مكبات النفايات، ومصادر تلوث طبيعية وغيرها، وعدم تحديد مصادر التلوث بدقة يصعب تنفيذ عمليات ضبط هذه المصادر ومراقبتها وتحقيق الإدارة السليمة لنوعية المياه الجوفية.
في الواقع، ثمة نحو 60 دولة متقدمة ونامية استخدمت تقنيات النظائر المشعة من أجل التحقيق في مواردها المائية، وذلك بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي وسط إفريقيا عام 2017، أجرى فريق من العلماء من 13 دولة بدعم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أول تقييم إقليمي على الإطلاق للمياه الجوفية باستخدام تقنيات النظائر المشعة، وقد ساعدت نتائج هذه الدراسة في توصيف طبيعة هذه الموارد ورسم خرائطها، وسوف تُستخدم نتائج هذا العمل في وضع خطط إدارة إقليمية من أجل الاستخدام المستدام المستمر لنظم طبقات المياه الجوفية المشتركة.
اقرأ أيضاً: ما هي الأراضي الرطبة وكيف نحميها؟
استخدام النظائر المشعة في تقييم التغيّرات المناخية في النظم البحرية والساحلية
تنتج العديد من التحديات البيئية الحالية التي تهدد صحة وصلاحية النظم البيئية الساحلية والبحرية عن عدد كبير من الأنشطة البشرية التي تتفاقم بسبب تغيّر المناخ، حيث تؤثر القضايا البحرية العالمية مثل ارتفاع درجة حرارة المحيطات، والتلوث البلاستيكي، وتحمض المحيطات، وزيادة مدة وكثافة تكاثر الطحالب الضارة على البيئات البحرية، وهي تفرض بالتالي مخاطر بيئية واقتصادية مختلفة.
لذلك، فإن القدرة على تقييم حالة النظم البيئية الساحلية والبحرية بشكل موثوق وكيفية استجابتها للاضطرابات المستقبلية، من شأنه أن يوفر معلومات حيوية للمجتمعات من أجل الإدارة المستدامة لبيئاتها البحرية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال استخدام مجموعة من تقنيات تعقب النظائر المشعة في مجموعة من التجارب المخبرية والميدانية.
وتعد تقنيات تحليل النظائر المشعة سريعة وغير مكلفة نسبياً، وقد ساعدت في تحديد التوافر البيولوجي للملوثات في أنسجة الكائنات الحية البحرية، وتحديد وقياس السموم الكيميائية الحيوية في المأكولات البحرية، وتقييم آثار تحمض المحيطات المستدام على الكائنات المختلفة، وتقييم عمليات التمثيل الغذائي في ظل ارتفاع درجة حرارة المحيطات، وغيرها.
استخدام النظائر المشعة في التأريخ الإشعاعي
لقد زودت العملية الفيزيائية للانحلال الإشعاعي كلاً من علماء الأرض وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأحياء التطورية بأهم طريقة فعّالة من أجل تحديد العمر الدقيق للصخور والعناصر الأخرى الموجودة في البيئة. وتُسمى هذه التقنية التي تعتمد على قياسات الخصائص المميزة للمواد المشعة بالتأريخ الجيولوجي للنظائر المشعة أو بكلمات أبسط "التأريخ الإشعاعي" (radiometric dating).
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن توفر دراسة الأساطير الجيولوجية رؤى جديدة حول التغير المناخي؟
إذ توجد كميات ضئيلة من نظائر العناصر المشعة مثل الكربون-14 واليورانيوم-238 وعشرات العناصر الأخرى في الصخور والماء والهواء وكل مكان حولنا، وهذه النظائر غير مستقرة، لذلك، فإنها تتفكك تدريجياً أو تتحلل. يعمل التأريخ الإشعاعي لأن العناصر المشعة تتحلل بطريقة يمكن التنبؤ بها، وإليك كيف يعمل.
لو كانت لديك فرضاً مليون ذرة من نظير مشع ما، فإن نصفها سوف يتحلل على مدى فترة زمنية محددة تسمى نصف العمر، فاليورانيوم-238، على سبيل المثال، له نصف عمر يبلغ 4.468 مليار سنة، وهذا يعني أنك إذا بدأت بمليون ذرة من اليورانيوم-238 ثم عدت بعد 4.468 مليار سنة، ستجد فقط نحو 500 ألف متبقية منه (تحولت الـ 500 ألف ذرة أخرى إلى ذرات مستقرة غير مشعة وهي ذرات الرصاص-206)، وبعد 4.468 مليار سنة أخرى ستجد 250 ألف ذرة من اليورانيوم-238، بالتالي ومن خلال معرفة عدد الذرات التي بدأت بها المادة ثم قياس ما تبقى منها يمكن قياس عمر الأشياء القديمة.
اقرأ أيضاً: الكويكب المتسبب في انقراض الديناصورات أحدث موجات التسونامي الأكبر على الأرض
من أشهر الطرق المستخدمة في التأريخ الإشعاعي هي التأريخ باستخدام الكربون المشع، التي تعتمد على قياس تحلل الكربون-14 وعمره النصفي يبلغ 5730 سنة، إذ تحتوي أجسام الكائنات الحية على نسبة صغيرة جداً من الكربون-14، وطالما أن الكائن الحي ما زال على قيد الحياة، فإن الكربون-14 يتجدد باستمرار في أنسجته بالنسبة الضئيلة نفسها. لكن وعندما يموت الكائن الحي، يتوقف تجديد الكربون-14 في الأنسجة، وتبدأ ذراته بالتحلل الإشعاعي ذرة تلو أخرى متحولة إلى نيتروجين-14.
بالتالي، يمكن للعلماء تحديد العمر التقريبي لقطعة من الخشب أو الشعر أو العظم أو أي جسم آخر عن طريق القياس الدقيق لكمية ذرات الكربون 14 المتبقية ومقارنتها بكمية الكربون-14 التي يفترض العلماء وجودها في تلك المادة عندما كانت على قيد الحياة. وقد استطاع العلماء باستخدام تقنيات مماثلة تستخدم نظائر مشعة ذات عمر نصف أكبر بكثير من نظير الكربون-14 تحديد تاريخ الصخور والمعادن التي يبلغ عمرها ملايين السنوات.