ملخص: بدأت تكنولوجيا جديدة تُسمَّى "الخشب الضخم" تنتشر في قطاع الإنشاء، وهي تعتمد على استخدام قطع خشبية كبيرة وصلبة لإنشاء المباني بدلاً من الخرسانة والفولاذ، اللذين يسهم إنتاجهما في 15% من انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون العالمية. الخشب مورد متجدد، ما يجعله أقل ضرراً بالبيئة. وبدأ البناؤون في ألمانيا والنمسا باختبار هذه التقنية منذ نحو 30 عاماً؛ إذ إنهم دمجوا قطع الخشب الصغيرة لصنع قطع أكبر دون الحاجة إلى إزالة الغابات البدائية. يصنع الخبراء الخشب الضخم تحت ضغط مرتفع، ما يجعله أقوى من الفولاذ من حيث الوزن. وعلى الرغم من المخاوف مثل خطر الحرائق والرطوبة وغيرها، أثبت الباحثون أن الخشب الضخم آمن من الحرائق، علماً أنه توجد طرق فعّالة لحمايته من التلف الناجم عن البلل. تشير بعض التقديرات إلى أن المباني المصنوعة من الخشب الضخم تخزّن الكربون وتسهم في منع انبعاثات الغازات الدفيئة، لكن لا تزال هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث للتحقق من الفوائد المتوقعة لهذه التكنولوجيا؛ إذ إن هذه الفوائد تعتمد على افتراضات غير مثبتة.
يشيّد العمال في جامعة تورنتو مقابل ملعب كرة القدم مبنى يتألف من 14 طابقاً يضم قاعات دراسية ومكاتب لأعضاء الهيئة التدريسية. ما يُميّز هذا المبنى هو طريقة بنائه، التي تعتمد على الوصل بين عوارض وأعمدة وألواح عملاقة مصنوعة من قطع خشبية مصنعة.
بعد جلب القطع الخشبية باستخدام شاحنة مسطحة، يستخدم العمال رافعة طويلة لرفعها إلى مكانها وتثبيتها فيه بينما يوصلونها بموصلات معدنية. يشبه المبنى وهو نصف مكتمل قطع الأثاث الجاهزة للتجميع وهي في مرحلة التجميع.
يعتمد هذا المبنى على تكنولوجيا جديدة تحمل اسم "الخشب الضخم" (mass timber). يستخدم العمال في هذا النوع من الإنشاء قطعاً خشبية ضخمة ومصنعة يمكن أن تتجاوز أطوالها 50 متراً بدلاً من الخرسانة والعوارض الفولاذية. وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا لا تزال نادرة الاستخدام نسبياً، فإنها تكتسب شعبية متزايدة وهي قيد الاستخدام في ناطحات السحاب في بلدان مختلفة من العالم.
أطول مبنى من الخشب الضخم حالياً هو ناطحة سحاب "أسينت" (Ascent)، التي تتألف من 25 طابقاً في مدينة ميلووكي الأميركية واكتمل بناؤها عام 2022. بدءاً من ذلك العام، بلغ عدد مباني الخشب الضخم في مختلف أنحاء العالم 84 مبنى، وتتألف هذه المباني من 8 طوابق أو أكثر وهي مكتملة أو قيد الإنشاء، كما من المخطط إنشاء 55 مبنى آخر. وفقاً لتقرير أصدره مجلس المباني الشاهقة والمساكن الحضرية الأميركي (Council on Tall Buildings and Urban Habitat)، تقع نسبة 70% من مباني الخشب الضخم المكتملة والمخطط لإنشائها في أوروبا، بينما تقع نسبة 20% تقريباً منها في أميركا الشمالية وتقع النسبة المتبقية في أستراليا وآسيا. إذا أخذنا المباني الأصغر في الاعتبار، فسيتجاوز عدد مباني الخشب الضخم المشيّدة في الولايات المتحدة وحدها 1,700 مبنى بدءاً من عام 2023.
اقرأ أيضاً: هل تشكل الأبنية الخشبية مستقبل الهياكل المقاومة للزلازل؟
الخشب الضخم هو بديل ملائم للخرسانة والفولاذ اللذين يتطلب إنتاجهما استهلاك الكثير من الطاقة ويسهم بنحو 15% من انبعاثات غاز ثنائي أوكسيد الكربون العالمية. على الرغم من أن الخبراء لا يزالون يتجادلون حول دور الخشب الضخم في مكافحة التغيّر المناخي، يعتقد الكثيرون أن هذه التكنولوجيا أقل ضرراً بالبيئة مقارنة بطرق الإنشاء المتّبعة حالياً. في النهاية، تعتمد هذه التكنولوجيا على الخشب، وهو مورد متجدد.
يُضفي الخشب الضخم أيضاً سمة جمالية مختلفة تجعل المباني مميزة. يقول عالم البناء في معهد الخشب الضخم التابع لجامعة تورنتو، الذي يعمل على دعم البحث والتطوير في مجال الخشب الضخم، تيد كيسِك: "سئم الناس من الفولاذ والخرسانة. الخشب أجمل بفضل مظهره الحميم والمريح وتنوعاته الطبيعية، والناس يستمتعون بمظهره بالفعل".
خشب ذو بنية أقوى
استخدام الخشب لإنشاء المباني الكبيرة ليس ممارسة جديدة. أدّى التحول الصناعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى زيادة الطلب على المصانع والمستودعات الكبيرة، التي كانت مصنوعة في أغلبها بتقنية الطوب والعوارض، التي تنطوي على استخدام أُطر من العوارض الخشبية الثقيلة التي تدعم الجدران الخارجية المصنوعة من الطوب.
لكن مع استمرار الازدياد في ارتفاعات المباني، اعتمد البناؤون الخرسانة والفولاذ لدعمها. أصبح البناء بالخشب مقتصراً في الغالب على المنازل والمباني الصغيرة الأخرى المصنوعة من الأخشاب "ذات الأبعاد" وذات الأحجام القياسية التي نراها مكدسة في متاجر هوم ديبوت (Home Depot).
لكن منذ نحو 30 عاماً، بدأ البناؤون في ألمانيا والنمسا باختبار تقنيات لصنع قطع خشبية ضخمة من هذه الأخشاب المعالجة المتوافرة بسهولة. استخدم هؤلاء المسامير والأوتاد والغراء لدمج قطع أصغر من الخشب وصُنع قطع كبيرة وقوية وصلبة لا يتطلب صنعها قطع الأشجار الكبيرة في الغابات البدائية.
ابتكر المهندسون مثل المهندس الألماني المقيم في سويسرا، يوليوس ناتيرير، أساليب جديدة للبناء باستخدام هذه المواد. وذاع صيت المعماريين، ومن بينهم النمساوي هيرمان كاوفمان، بسبب مشروعات الإنشاء بالخشب الضخم التي أجروها، مثل مشروع شقق أولزبونت في النمسا الذي اكتمل في عام 1997 ومبنى بروك كومنز، وهو سكن طلابي مكون من 18 طابقاً في جامعة بريتش كولومبيا اكتمل في عام 2017.
من حيث المبدأ، الخشب الضخم مثل الخشب المعاكس (أو الخشب الرقائقي) ولكن على مقياس أكبر بكثير؛ إذ إنه مصنوع من قطع صغيرة مجمّعة وملصوقة معاً تحت الضغط في مكابس متخصصة كبيرة. يمكن اليوم استبدال القطع الفولاذية بعوارض مصنوعة عادة من مادة تحمل اسم "الخشب المصفّح المغرَّى" يصل طولها إلى 50 متراً، ويمكن استبدال الخرسانة بألواح من الخشب الصفيحي المتقاطع التي تصل سماكتها إلى 50 سنتيمتراً في الجدران والأرضيات.
يمكن أن تكون هذه المواد الخشبية المركّبة قوية على نحو غير متوقع؛ إذ إنها أقوى من الفولاذ من حيث الوزن. مع ذلك، يجب أن تكون قطع الخشب الضخم أكبر حجماً لتكتسب قوة مماثلة لقوة الفولاذ. لكن سماكة الدعامات الخشبية يجب أن تزداد بازدياد ارتفاع المبنى، ما يعني أن المساحة التي تشغلها تصبح كبيرة للغاية في مرحلة ما. لذلك، يلجأ المعماريون في الكثير من الأحيان لاستخدام مزيج من الخشب والفولاذ والخرسانة لإنشاء مباني الخشب الضخم الكبيرة، مثل ناطحة السحاب أسينت.
اقرأ أيضاً: 7 تقنيات مستخدمة في إنشاء ناطحات السحاب لمقاومة الزلازل
مثّلت السلامة من الحرائق تاريخياً أحد المخاوف الأكثر بديهية بشأن استخدام الخشب الضخم لإنشاء المباني الطويلة. وحتى وقت قريب، نصَّ العديد من قوانين البناء على تشييد المباني المنخفضة الارتفاع فقط باستخدام الخشب.
على الرغم من أنه ليس بالضرورة أن تكون المباني مقاومة للحرائق تماماً، فإنها يجب أن تتمتّع بمقاومة للانهيار تدوم فترة كافية لمنح رجال الإطفاء فرصة للسيطرة على النيران وإخلاء القاطنين. على سبيل المثال، يجب أن تحافظ المواد المستخدمة لبناء ناطحات السحاب التقليدية على سلامتها في حالة نشوب حريق فترة 3 ساعات أو أكثر.
يضع المهندسون قطع الخشب الضخم في أفران تعمل بالغاز ويراقبون سلامتها لاختبار مقاومتها للحرائق، بينما تنطوي اختبارات أخرى على إشعال النار في نماذج المباني الخشبية وتوثيق النتائج.
دفعت هذه الاختبارات الجهات التنظيمية والعملاء للاقتناع تدريجياً بأن الخشب الضخم قادر على مقاومة الاحتراق طوال مدة زمنية تكفي لتصنيفه على أنه آمن من الحرائق. تعود المقاومة التي يتمتّع بهذا الخشب جزئياً إلى تشكّل طبقة من الفحم على السطح الخارجي للقطع في وقتٍ مبكر من الحريق، ما يؤدي إلى عزل الجزء الداخلي منها عن قدرٍ كبيرٍ من حرارة النار.
حصلت تكنولوجيا الخشب الضخم على دعم ٍكبيرٍ عام 2021 عندما عدّل مجلس الكود الدولي قانون البناء الدولي، الذي يمثّل نموذجاً لتشريعات الإنشاء على مستوى العالم، للسماح بإنشاء مباني الخشب الضخم التي تصل ارتفاعاتها إلى 18 طابقاً. في ضوء هذا التغيير، من المتوقع أن يزداد عدد الإدارات المحلية التي ستحدّث قوانينها للسماح بإنشاء مباني الخشب الضخم روتينياً بدلاً من منح الموافقات الخاصة فقط.
مع ذلك، هناك عقبات أخرى تقف في وجه اعتماد هذه التكنولوجيا. يقول المهندس المعماري والباحث في مجال الاستدامة الحضرية في جامعة نيفادا في مدينة لاس فيغاس، ستيفن ليمان: "الرطوبة هي المشكلة الأخطر، وليس الحرائق".
يجب أن تتمتّع المباني جميعها بمقاومة للرطوبة، ولكن هذا يصح بصورة خاصة في حالة مباني الخشب الضخم. الخشب الرطب أكثر عرضة للتلف الناجم عن الفطريات والحشرات مثل النمل الأبيض. يحرص البناؤون على منع تعرض الخشب للبلل في أثناء النقل والإنشاء، كما أنهم ينفّذون خططاً شاملة للسيطرة على الرطوبة تشمل تصميم أنظمة التدفئة والتهوية التي تمنع تراكمها. يمكن حماية الخشب من الحشرات أيضاً من خلال معالجته بمبيدات الآفات الكيميائية أو إحاطته بالشباك أو الحواجز المادية الأخرى في نقاط تلامسه بالأرض.
يمثّل عزل الصوت إحدى المشكلات الأخرى؛ إذ إن الخشب ينقل الموجات الصوتية بكفاءة. يحل المصممون هذه المشكلة من خلال استخدام المواد العازلة للصوت وترك الفراغات بين الجدران وتركيب الأرضيات المرتفعة، وغيرها من الطرق.
اقرأ أيضاً: لماذا توقف العالم عن بناء الأبنية الكلاسيكية الجميلة؟
الفوائد المحتملة للخشب الضخم
تتطلب مكافحة الاحتباس الحراري الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن قطاع الإنشاء، الذي يتسبب بنسبة 39% من الانبعاثات العالمية. تقول العالمة البيئية في جامعة أوروبا الوسطى في مدينة فيينا، ديانا أورغه فورجاس، إن تكنولوجيا الخشب الضخم والمواد الحيوية الأخرى قد تسهم في الحد من هذه الانبعاثات بنسبة كبيرة.
ألّفت أورغه فورجاس وزملاؤها ورقة بحثية نشرتها مجلة المراجعة السنوية للبيئة والموارد (Annual Review of Environment and Resources) عام 2020 استشهدت فيها بتقدير توصلت إليه جهات من قطاع تصنيع الخشب مفاده أن مبنى بروك كومنز الذي يتألف من 18 طابقاً منع انبعاث ما يعادل 2,432 طناً مترياً من ثنائي أوكسيد الكربون مقارنة بمبنى مشابه مصنوع من الخرسانة والفولاذ. نتج 679 طناً مترياً من هذه الكمية عن أن نسبة انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن تصنيع الخشب أقل من نظيرتها الناجمة عن تصنيع الخرسانة والفولاذ. كما أن الخشب في المبنى احتجز 1,753 طناً مترياً من مكافئ ثنائي أوكسيد الكربون.
تقول أورغه فورجاس: "هناك أثر إيجابي مزدوج لاستخدام المواد الحيوية".
تعتمد أغلبية الفوائد المتوقعة للخشب الضخم على بعض الافتراضات الجريئة. على سبيل المثال، يفترض المقيّمون غالباً أنه يمكن استبدال أي أخشاب مستخدمة في مباني الخشب الضخم بأشجار جديدة، وأن هذه الأشجار ستمتص الكمية نفسها من ثنائي أوكسيد الكربون من الغلاف الجوي بمرور الوقت. يجادل خبراء بعض الجماعات البيئية بأنه إذا استبدلنا أشجار الغابات البدائية بمزارع من الأشجار الجديدة، فإن أحجام هذه الأخيرة قد لا تصل أبداً إلى أحجام الأشجار الأصلية نفسها. هناك أيضاً مخاوف متعلقة بأن ازدياد الطلب على الخشب سيؤدي إلى إزالة مساحات أكبر من الغابات وتقليص مساحة الأراضي الصالحة لإنتاج الغذاء.
يميلُ الباحثون أيضاً إلى الافتراض في دراساتهم أن الخشب سيحتفظ بالكربون على نحو دائم بمجرد استخدامه في إنشاء المباني. لا يستخدم الخبراء كمية الخشب الكلية من الأشجار المقطوعة في المنتج التام الصنع، وقد تتحلل الأغصان والجذور ومخلّفات معامل تصنيع الخشب أو تحترق. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يطرح خشب هذه المباني محتواه من الكربون على شكل غاز الميثان أو الانبعاثات الأخرى إذا وصل إلى مكبات النفايات بعد هدم المباني.
تقول المهندسة المعمارية والباحثة البيئية في مؤسسة منتدى القيادة الكربونية غير الربحية (Carbon Leadership Forum)، ستيفاني كارلايل، متسائلة عن إن كانت فوائد الإنشاء بالخشب الضخم تتفوق على مضاره دائماً: "حيّرت هذه المشكلات الكثير من المعماريين، هل فوائد هذه التكنولوجيا حقيقية فعلاً؟" تعتقد كارلايل إن الفوائد المناخية للخشب الضخم حقيقية بالفعل، لكنها تقول إن إدراك حدود هذه الفوائد سيتطلب إجراء المزيد من الأبحاث.
وفي الوقت نفسه، يحتل الخشب الضخم الصدارة في نموذج مختلف تماماً من الإنشاء يحمل اسم "التصميم المتكامل". في عملية الإنشاء التقليدي، يصمم المعماري المبنى أولاً ثم يتولى العديد من الشركات أجزاء مختلفة من عملية الإنشاء، من وضع الأسس وبناء الإطار إلى تركيب أنظمة التهوية وما إلى ذلك.
لكن وفقاً لكيسِك، تكون مرحلة التصميم في عملية التصميم المتكامل أكثر تفصيلاً بكثير، كما أنها تتطلب مشاركة الشركات المختلفة من البداية. يحدد الخبراء الطريقة التي ستتناسب وفقها المكونات المختلفة وتعمل معاً مسبقاً، وكذلك فهم يحددون الأحجام والأشكال الدقيقة للعناصر، حتى إنه يمكن حفر الثقوب لنقاط التثبيت مسبقاً أيضاً. يعني ذلك أنه يمكن تصنيع العديد من المكونات خارج موقع الإنشاء، غالباً باستخدام الآلات المتقدّمة التي تتحكّم بها أجهزة الكمبيوتر.
يفضّل الكثير من المعماريين هذا النموذج في التصميم لأنه يمنحهم قدرة أكبر على التحكم بعناصر المباني، وبما أنهم ينجزون الكثير من العمل مسبقاً وفقاً لهذا النموذج، يكتمل إنشاء المباني في مواقعها بسرعة أكبر عادة؛ إذ يقول ليمان إن الفرق في سرعة إنشاء بعض المباني يصل إلى 40%.
وفقاً لكيسِك، تشبه عملية تصنيع مباني الخشب الضخم عملية تصنيع السيارات إلى حد ما؛ إذ تشحن شركات مختلفة قطعاً منفصلة إلى موقع التجميع النهائي. يقول كيسِك: "عندما تصل مباني الخشب الضخم إلى مواقع الإنشاء، فإنها تبدو شبيهة بقطع أثاث عملاقة من إيكيا، وتتناسب مكوناتها المختلفة على نحو مثالي بطريقة ما".