ما الذي يعنيه نجاح الزراعة في القارة القطبية الجنوبية للبعثات الفضائية المستقبلية؟

5 دقائق
ما الذي يعنيه نجاح الزراعة في القارة القطبية الجنوبية للبعثات الفضائية المستقبلية؟
زراعة الطعام في البيئات العدوانية تحاكي الزراعة في محطات الفضاء الخارجي والكواكب الأخرى بشكل جيد. حقوق الصورة: ديبوزيت فوتوز

إن إيجاد طرق لتغذية البشر في الفضاء جزء مهم من جهود إثبات جدوى الاستيطان البشري طويل المدى للبيئات خارج الأرضية. أعلن فريق من العلماء في 12 مايو/أيار 2022 أنه تمكّن من زراعة نباتات بنجاح باستخدام تربة قمرية تم تجميعها خلال مهمات أبولو. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها العلماء زراعة النباتات في أنواع من التربة لا تدعم الحياة عادة.

أنا مؤرّخ لعلوم القارة القطبية الجنوبية. وأعلم من عملي أن مجال دراسة زراعة التغذية في الأقاصي الجنوبية للعالم كان نشطاً منذ أكثر من 120 عاماً. ساعدت هذه الجهود في توسيع فهمنا للعديد من التحديات في مجال الزراعة في البيئات المتطرفة وقادت في النهاية إلى زراعة النباتات في القطب الجنوبي بشكل محدود. بدأ العلماء بعد ستينيات القرن العشرين بشكل خاص بالنظر لهذا المجال كخطوة أساسية للاستيطان البشري للفضاء.

اقرأ أيضاً: ما أهمية نجاح أول زراعة نباتات في تربة القمر للبعثات الفضائية المستقبلية؟

زراعة النباتات في القطب الجنوبي

ركّزت الجهود المبكرة لزراعة النباتات في القطب الجنوبي على توفير المغذيات للمستكشفين بشكل أساسي.

كان الطبيب وعالم النباتات البريطاني "ريجينالد كويتليتز" أول شخص يزرع النباتات القابلة للأكل في تربة القطب الجنوبي عام 1902. جمع كويتليتز التربة من ممر مكموردو المائي واستخدمها لزراعة الخردل والجرجير في صناديق تحت ضوء السماء على متن سفينة البعثة التي كان فيها. واستفادت البعثة الاستكشافية بشكل مباشر من المحاصيل التي زرعها. أنتج كويتليتز ما يكفي من المحاصيل لدرجة أن جميع أفراد طاقم السفينة تناولوا هذه الخضروات للتخفيف من أعراض مرض الأسقربوط الذي تفشى بينهم. بيّنت هذه التجربة المبكرة أن تربة القطب الجنوبي يمكن أن تكون مغذية للنباتات، كما بيّنت أهمية وجود الغذاء الطازج خلال بعثات الاستكشاف القطبية.

كانت المحاولات المبكرة لزراعة النباتات في القطب الجنوبي غير ناجحة. إذ أرسل عالم النبات الأسكتلندي "روبرت رادموز-براون" في 1904 بذوراً لـ 22 نوعاً من نباتات القطب الشمالي التي تتحمل البرد إلى جزيرة "لوري" المتجمدة الصغيرة لمعرفة ما إذا كانت ستنمو هناك. لم تنبت أي بذرة من هذه البذور، وأرجع رادموز-براون ذلك إلى الظروف البيئية وغياب علماء الأحياء في التجربة، والذين كانوا يستطيعون أن يعززوا نمو النباتات.

تم إجراء العديد من التجارب لإدخال نباتات غير مستوطنة في بيئات القطب الجنوبي لكن لم تبق معظم النباتات على قيد الحياة لفترة طويلة بشكل عام. على الرغم من أن التربة يمكن أن توفر المواد الغذائية اللازمة لبعض أنواع النباتات، إلا أن الظروف البيئية القاسية لم تكن مناسبة لزراعة النباتات.

اقرأ أيضاً: سعودي مبدع يجمع مياه الأمطار في أحواض من الصخور لاستخدامها في زراعة البن

التقنيات الحديثة والفوائد العاطفية

بدأت العديد من الدول حول العالم في تجهيز محطات طويلة الأمد في القارة القطبية الجنوبية بحلول أربعينيات القرن العشرين. لكن نظراً لاستحالة زراعة النباتات خارج هذه المحطات، أخذ بعض الأشخاص الذي يعيشون فيها على عاتقهم بناء الدفيئات لتوفير الغذاء والرفاهة الشخصية. أدرك هؤلاء بعد ذلك أن جودة تربة القارة القطبية الجنوبية كانت أخفض بكثير من أن تدعم نمو الكثير من المحاصيل المختلفة عن الخردل والجرجير، كما أنها كانت تفقد خصوبتها عادة بعد سنة أو سنتين. بدأ البشر ابتداءً من الستينيات باستخدام الطرق غير المعتمدة على التربة مثل الزراعة المائية، وهي طريقة تُزرع ضمنها النباتات بغمس جذورها بالماء المدعم كيميائياً تحت مزيج من الإضاءة الاصطناعية والطبيعية.

لم تكن تستخدم منشآت إنتاج النباتات بيئة القارة القطبية الجنوبية أبداً بتطبيق تقنيات الزراعة المائية في الدفيئات. بدلاً من ذلك، كان البشر يخلقون الظروف الاصطناعية.

تم بناء 43 منشأة مختلفة في القارة القطبية الجنوبية حيث كان الباحثون يزرعون النباتات في وقت أو آخر بحلول عام 2015. وفي حين أن هذه المنشآت كانت مفيدة للتجارب العلمية، إلا أن العديد من الباحثين القاطنين في القطب الجنوبي كانوا سعداء بسبب قدرتهم على تناول الخضروات الطازجة في الشتاء، واعتبروا أن هذه المنشآت هي بمثابة نعمة هائلة لرفاهتهم النفسية. قال أحد الباحثين إن هذه المنشآت "دافئة وساطعة ومملوءة بأشكال الحياة الخضراء. وهي بيئة يشتاق إليها البشر خلال شتاء القطب الجنوبي".

اقرأ أيضاً: نهجٌ جديد لاستخدام الدخان الناتج عن عوادم السيارات في زراعة الغذاء

القارة القطبية الجنوبية كنظير للفضاء

بدأ البشر يخططون لغزو الفضاء، وخصوصاً القمر، مع نمو الاستيطان البشري للقارة القطبية الجنوبية خلال منتصف القرن العشرين. بدأ العلماء العاملون في منظمات مثل وكالة ناسا ابتداءً من الستينيات في التفكير في القارة القطبية الجنوبية ذات الظروف العدائية والمتطرفة والغريبة كنظير مناسب لاستكشاف الفضاء تستطيع الدول فيه اختبار تكنولوجيات وبروتوكولات استكشاف الفضاء، بما في ذلك زراعة النباتات. استمر هذا الاهتمام حتى نهاية القرن العشرين، ولكن لم تصبح الزراعة في الفضاء هدفاً أساسياً لبعض الأبحاث الزراعية التي تم إجراؤها في القطب الجنوبي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

تعاونت في عام 2004 مؤسسة العلوم الوطنية ومركز الزراعة في البيئات المتحكّم بها التابع لجامعة أريزونا لبناء حجرة إنماء الغذاء في القطب الجنوبي. تم تصميم هذا المشروع لاختبار فكرة الزراعة في البيئات المتحكّم بها، والتي تعتبر وسيلة لزيادة نمو النبات قدر الإمكان مع تقليل استخدام الموارد قدر الإمكان. وفقاً للمصممين، تحاكي هذه المنشأة ظروف قاعدة القمر بدقة، كما أنها تمثّل "نظيراً على الأرض يمكن استخدامه لحل بعض المشكلات التي ستواجه الباحثين عند نقل إنتاج الغذاء إلى المساكن الفضائية". لا تزال هذه المنشأة تزوّد محطة القارة القطبية الجنوبية بالأغذية التكميلية.

تعاونت جامعة أريزونا منذ بناء حجرة إنماء الغذاء في القطب الجنوبي مع وكالة ناسا لبناء نموذج أولي مماثل خاص بالدفيئة القمرية.

زراعة النباتات في الفضاء

مع ازدياد الوقت الذي أصبح البشر يقضونه في الفضاء قرابة نهاية القرن العشرين، بدأ رواد الفضاء بتطبيق الدروس التي استخلصت خلال قرن من الزمن تقريباً من زراعة النباتات في القارة القطبية الجنوبية.

وقام رواد فضاء وكالة ناسا في 2014 بتركيب نظام إنتاج الخضروات على متن محطة الفضاء الدولية لدراسة إنماء النباتات في ظروف الجاذبية الصّغرية. حصد رواد الفضاء في السنة التالية محصولاً صغيراً من الخس وأكلوا بعضاً منه مع الخل البلسمي. وأكدت وكالة ناسا كما جادل علماء القطب الجنوبي لسنوات عديدة أن القيمة الغذائية والنفسية لزراعة المنتجات الطازجة هي حل "لمشكلة طول أمد المهام في الفضاء السحيق".

تلعب الأبحاث التي يتم إجراؤها في القارة القطبية الجنوبية دوراً مهماً في غزو الفضاء حتى اليوم. إذ أطلقت ألمانيا في 2018 مشروعاً في القارة القطبية الجنوبية يدعى "إي دي إي إن آي إس إس" الذي يركز على تكنولوجيات زراعة النباتات وتطبيقاتها في الفضاء في الأنظمة نصف المغلقة. تتم زراعة النباتات في هذا المشروع في الهواء الطلق مع رش الماء المعزز بالمواد الكيميائية على جذورها. تمكّن القائمون على هذا المشروع في السنوات الأخيرة من إنتاج كمية من الخضروات الطازجة تكفي لتغطية ثلث الاحتياجات الغذائية لطاقم مكون من 6 أشخاص.

اقرأ أيضاً: شركة تقنية زراعية تبتكر حلولاً لزراعة محاصيل تتحمل المياه المالحة في السعودية

إن مسألة كيفية زراعة النباتات تعتبر أساسية في أي نقاش حول المستوطنات البشرية المحتمل إنشاؤها على القمر أو المريخ، تماماً كما هو الحال في القارة القطبية الجنوبية. تخلى البشر في النهاية عن محاولة زراعة النباتات في البيئة القاسية للقارة القطبية الجنوبية لإنتاج الغذاء ولجؤوا إلى التكنولوجيات والبيئات الاصطناعية للقيام بذلك. ولكن بعد أكثر من قرن من الممارسة واستخدام أحدث التكنولوجيات، لم يكن الطعام المزروع في القارة القطبية الجنوبية قادراً على دعم الكثير من الناس لفترة طويلة جداً. قد يكون من الحكمة أولاً إثبات أن البشر في مستوطنة ما يمكن أن يبقوا على قيد الحياة وسط السهول المتجمدة للقارة القطبية الجنوبية قبل إرسال رواد الفضاء إلى القمر أو المريخ.

المحتوى محمي