ستشهد العقود المقبلة تحدياً كبيراً في الحد من البصمة البيئية للزراعة والحفاظ على المحصول أو زيادته، ولذلك تعتبر الزراعة العضوية وسيلة محتملة أكثر استدامة وصديقة للبيئة لتحقيق ذلك؛ حيث تسهم في تحسين الظروف البيئية مثل جودة التربة والمياه، وإنتاج الغذاء من خلال طرق الإنتاج الطبيعية التي تعتمد على استخدام المواد المكافحة للآفات والأسمدة البيولوجية المشتقة بشكلٍ كبير من النفايات الحيوانية والنباتية. وفي عام 2022، وصلت مساحة الزراعة العضوية في العالم إلى أكثر من 96 مليون هكتار، إلّا أن الإنتاج العضوي يغطي أقل من 2% من الأراضي الزراعية العالمية، لكن من المتوقع أن يزداد الإنتاج العضوي في المستقبل لتحقيق الحياد الكربوني.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: استخدام الأسمدة بذكاء يقلل انبعاثات الكربون في الزراعة
ومع ذلك، لا يتوفر سوى القليل من المعلومات حول تأثيرات الحقول العضوية في المزارع المجاورة، وبالتالي التأثير النهائي للزراعة العضوية.
ما التأثيرات "غير المباشرة" للزراعة العضوية؟
وفقاً لدراسة حديثة نُشِرت في مجلة ساينس Science، توصل الباحثون إلى أن زيادة مساحات أراضي المحاصيل العضوية يمكن أن تؤدي إلى زيادة استخدام المبيدات الحشرية في الحقول غير العضوية المجاورة، وأشاروا إلى أنه يمكن الحد من أضرار هذه "الآثار غير المباشرة" عن طريق ضم المزارع العضوية مكانياً معاً، وفصلها جغرافياً عن المزارع التقليدية.
درس الباحثون التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لأراضي المحاصيل العضوية في استخدام المبيدات الحشرية في حقول المحاصيل العضوية والتقليدية المجاورة. وصرّحت الباحثة أشلي لارسن Ashley Larsen، من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا والمشارِكة الرئيسية بالدراسة، بأنه: "على الرغم من الضغوط السياسية لزيادة مساحة الزراعة العضوية، لا تزال هناك حاجة في المعرفة الأساسية لكيفية تأثير الزراعة العضوية في البيئة".
ومن أجل الوصول إلى هذه المعلومات، جمع الباحثون بيانات استخدام المبيدات الحشرية وإنتاج المحاصيل لنحو 14 ألف حقل في مقاطعة كيرن بولاية كاليفورنيا على مدار سبع سنوات، من عام 2013 حتى عام 2019، إلى جانب بيانات حول الزراعة العضوية واستخدام المبيدات الحشرية في الولايات المتحدة.
قارن الفريق البحثي الخرائط الرقمية للحقول والمحاصيل المزروعة بها مع سجلات استخدام المبيدات الحشرية، ولاحظ الباحثون زيادة في استخدام المبيدات الحشرية في الحقول التقليدية المجاورة للحقول العضوية بنسبة بسيطة لكن ملحوظة ومؤثرة. لكن في المقابل، رصدت الدراسة انخفاضاً أكبر في استخدام هذه المبيدات بالحقول العضوية المحيطة.
استناداً إلى هذه النتائج، أجرى الباحثون محاكاة لدراسة تأثير مساحة الأراضي الزراعية العضوية في استخدام المبيدات الحشرية، ولاحظوا أن هناك انخفاضاً في معدل استخدام المبيدات الحشرية كلما زادت المسافة بين الحقول التقليدية والحقول العضوية.
كيف يمكن الحد من التأثيرات غير المرغوبة للمزارع العضوية فيما يجاورها؟
وفقاً لنتائج الفريق فإن ضم الحقول العضوية وفصلها مكانياً عن الحقول التقليدية يمكن أن يقلل من الأثر البيئي للأراضي الزراعية، سواء العضوية أو التقليدية. وأشار إريك ليشتنبرغ Erik Lichtenberg من جامعة ميريلاند إلى أن قرارات المزارعين بشأن استخدام مبيدات الآفات تتأثر بوجود الحقول العضوية القريبة، لكن السبب وراء ذلك لا يزال غير واضح تماماً. وقد تؤدي قيمة المحاصيل وقابليتها للإصابة بالآفات وتحمل المزارعين للمخاطر دوراً في ذلك. وأكد ليشتنبرغ أنه لا تزال هناك حاجة لمزيد من الأبحاث لفهم الآفات المتنقلة ذات الصلة، ومصدرها الطبيعي وكيفية انتقالها والأسباب وراء ذلك.
أوضح الخبراء أن مالكي الأراضي يقللون من جهودهم في مكافحة الآفات نتيجة لتراجع جهود جيرانهم المزارعين في هذا المجال. ويعود هذا السلوك إلى انتشار الآفات بشكلٍ كبير، ما يؤثّر في قدرة المزارعين على السيطرة على الآفات الموجودة في أراضيهم، وبالتالي يعوق جهود المكافحة بسبب زيادة انتشار الآفات.
فإذا كانت الآفات تنتشر بشكلٍ مستمر في الأراضي، قد يرش المزارع المبيدات الحشرية لقتل هذه الآفات، لكن الهجرة العالية للآفات تقلل من فاعلية هذا الإجراء. بالإضافة إلى ذلك، قد يتعلم المزارعون من جيرانهم ويخفّضون استخدام مبيدات الآفات تجاوباً مع تقليل استخدام مبيدات الآفات في المزارع المجاورة.
ما هي الزراعة العضوية؟
تُعدّ الزراعة العضوية نظاماً زراعياً مستداماً، وطُوِّرت حديثاً في بداية القرن العشرين كاستجابة للأضرار البيئية الناجمة عن استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة الاصطناعية في الزراعة التقليدية.
تحقق الزراعة العضوية العديد من المنافع للبيئة مقارنة بالزراعة التقليدية، حيث تعتمد الزراعة العضوية على استخدام كمية أقل من المبيدات الحشرية، وتسهم في تقليل تآكل التربة، وتقليل تسرب النترات إلى المياه الجوفية والمياه السطحية، وإعادة تدوير النفايات الحيوانية إلى المزرعة.
ونتيجة للظروف المناخية والتربة، وقربها من قنوات التسويق والملكية وعوامل محلية أخرى، غالباً ما توجد المزارع العضوية والتقليدية بالقرب من بعضها بعضاً. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن القرب الجغرافي لا يعني بالضرورة التوافق بينها؛ فاحتمال انتقال المبيدات الحشرية الكيميائية أو حبوب اللقاح من المحاصيل المعدّلة وراثياً يمكن أن يشكّل تهديداً لمزارعي المحاصيل العضوية.
في المقابل، يمكن أن تكون الحشرات وجراثيم الفطريات وبذور الحشائش التي تُستخدم كوسائل طبيعية لمكافحة الآفات في الحقول العضوية مصادر لانتشار الآفات في الحقول التقليدية، بالإضافة إلى انتقال الآفات الحشرية التي لا يُتحكم فيها بشكلٍ كافٍ في الحقول العضوية.
اقرأ أيضاً: ما هو الغذاء غير العضوي؟ وهل يضر تناول غذاء غير عضوي بصحة الإنسان؟
الزراعة العضوية ليست صديقة للبيئة دائماً
تعتبر الزراعة العضوية بشكلٍ عام صديقة للبيئة أكثر من الزراعة التقليدية، إلّا أنها ليست مثالية تماماً، وهناك بعض الجوانب التي قد تؤثّر سلباً في البيئة.
تأثر جهود مكافحة الآفات
يتضمن إنتاج المحاصيل العضوية مجموعة من الأساليب والممارسات المختلفة عن تقنيات الإدارة في المزارع التقليدية. تشمل هذه الممارسات استخدام أساليب مختلفة لمكافحة الآفات، ما قد يؤدي إلى انتشار الآفات الزراعية و/أو أعدائها الطبيعيين إلى الحقول الزراعية المجاورة، وبالتالي زيادة أو تراجع الأضرار الناجمة عن الآفات واستخدام المبيدات الحشرية. ويمكن أن تكون الحقول العضوية موطناً لأنواع أكثر فائدة مفترسة للحشرات، مثل الطيور والعناكب والخنافس المفترسة، وتقلل من وجود الآفات بشكلٍ عام. وقد يكون نقص المبيدات الكيمائية والبذور المعدّلة وراثياً عاملاً يسهم في زيادة أعداد الآفات في الحقول العضوية.
التأثير البيئي للمبيدات الطبيعية
تستخدم الزراعة العضوية في الواقع المبيدات الحشرية، لكن يجب أن تكون تلك المبيدات عضوية أيضاً. وعلى الرغم من أن البعض قد يعتقد أن المبيدات الطبيعية أقل سمية أو ضرراً من المبيدات الاصطناعية، فإن الكثير من الخبراء حذّروا من ذلك. قد يكون للمنتجات العضوية تأثير بيئي أكبر نظراً لاستخدام كميات أكبر من هذه المبيدات، وهو ما أظهرته دراسة أجرتها جامعة جيلف في كندا عام 2010، حيث قارنت استخدام المبيدات الحشرية الاصطناعية والعضوية في زراعة فول الصويا.
تلوث التربة
قد يؤدي الاستخدام غير السليم للمبيدات والأسمدة العضوية إلى الإضرار بالكائنات النافعة التي تعيش في التربة وحدوث خلل في النظام البيئي، بجانب احتمال حدوث تلوث وخلل في توازن المغذيات بالتربة ناتج عن الاستخدام المفرط لهذه الأسمدة، كما يمكن أن يزداد خطر تعرض التربة للتآكل إذا لم تُنفَّذ تدابير مكافحة التآكل بشكلٍ فعّال.
زيادة غازات الدفيئة
أحد العوامل التي تزيد من التكلفة البيئية للمنتجات العضوية هو ضرورة استخدام مساحات أكبر من الأراضي لإنتاج حجم الغذاء نفسه، وذلك بسبب الحد من استخدام الأسمدة. وتؤدي هذه الحاجة إلى تخصيص مساحات أكبر للإنتاج الزراعي وبالتالي إزالة الغابات، ما يقلل من القدرة على تخزين الكربون في التربة، والنتيجة النهائية لهذا هو زيادة انبعاثات غازات الدفيئة المسؤولة عن تغيّر المناخ.
رُكِز على هذا التأثير في دراسة نُشِرت عام 2018 في مجلة نيتشر Nature، وفيها حلل الباحثون نوعين محددين من المحاصيل في السويد، وتوصلوا إلى أن البازلاء العضوية لها تأثير مناخي أكبر بنسبة 50% من البازلاء التقليدية، بينما يصل هذا الفرق إلى ما يقرب من 70% بالنسبة للقمح.
علاوة على ذلك، أجرت دراسة نُشِرت في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز Nature Communications عام 2019، تحليلاً لمعرفة تأثير تحويل إنتاج الزراعة في إنجلترا وويلز جميعها إلى المنتجات العضوية. وجد الباحثون من جامعتي كرانفيلد وريدينغ أن انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن تربية الماشية ستنخفض بنسبة 5%، بينما ستنخفض انبعاثات الزراعة بنسبة 20%. لكن، يجب ملاحظة أن تقليل الإنتاج بنسبة 40% سيؤدي إلى الحاجة لاستيراد الغذاء من الخارج. ونتيجة لذلك، ستزيد الانبعاثات الكلية بنسبة 21%، ومن الممكن أن تصل هذه الزيادة إلى 70%.
ومع ذلك، يعترف الكثير من الخبراء، بمن في ذلك المدافعون المتحمسون عن الإنتاج العضوي، بأن هذه المسألة معقدة. فالتأكيدات الشاملة على أن الزراعة العضوية هي دائماً أكثر استدامة من الزراعة التقليدية، أو العكس، هي تبسيطات لا تتوافق مع الواقع. كما حذّر كريستل سيديربيرغ Christel Cederberg وهايو فان دير فيرف Hayo van der Werf، المتخصصان في الأغذية والزراعة المستدامة، في دراسة نُشِرت في مجلة نيو ساينتست Newscientist من أن الدراسات حول هذه المسألة غالباً ما تركّز على جوانب محدودة للغاية، ولا تقيّم بشكلٍ مناسب التأثيرات البيئية للإنتاج العضوي في التنوع البيولوجي أو صحة التربة الزراعية.