مقارنة بالمشكلات البيئية التي نواجهها حالياً، نشأ التلوث بالألياف الدقيقة بشكل غير متوقع. منذ نحو عقد من الزمن فقط، بدأ العلماء يشكّون في أن الملابس التي تزداد فيها نسبة المواد الاصطناعية مثل البوليستر والنايلون قد تكون من العوامل الأساسية التي تسهم في مشكلة التلوث البلاستيكي العالمية.
ثلث المواد البلاستيكية الدقيقة في المحيط مصدرها الملابس
واليوم، يبين عدد متزايد من الدراسات العلمية أن الخيوط الصغيرة التي تنسلخ من الملابس توجد في كل مكان وفي مختلف المواد. وفقاً لأحد التقديرات، تشكل المواد البلاستيكية الدقيقة المطروحة من الملابس نحو ثلث المواد البلاستيكية الدقيقة التي تصل إلى المحيط. وُجدت هذه المواد في مختلف الأماكن في العالم من جبل إفريست إلى خندق ماريانا، كما وجدت أيضاً في مياه الصنابير والكائنات مثل العوالق وأحشاء الروبيان وحتى براز البشر.
لم يكتشف العلماء بعدُ تبعات الانتشار الواسع لهذه المواد البلاستيكية الدقيقة على صحة البشر والكوكب، ولكن حفّزت الدراسات العلمية الحديثة بعض الحكومات، وخاصة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، على البحث عن طرق لحل هذه المشكلة. أول مصدر ستستهدفه الحكومات هو غسالات الملابس المنزلية التي يقول الناشطون البيئيون إنها من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى وصول الألياف الدقيقة الملوِّثة إلى البيئة.
اقرأ أيضاً: حان الوقت لزيادة وضوح رموز المنتجات البلاستيكية القابلة لإعادة التدوير
فرض وضع فلاتر لاحتجاز الجسيمات البلاستيكية في الغسالات
في أواخر شهر مارس/ آذار 2023، عقدت لجنة تابعة للجمعية التشريعية لولاية كاليفورنيا جلسة استماع حول مشروع قانون يحمل اسم قانون الجمعية 1628، الذي سيفرض على شركات تصنيع غسالات الملابس إضافة جهاز جديد يحجز الجسيمات التي تصل أقطارها إلى 100 ميكرومتر (بعرض شعرة الإنسان تقريباً) بحلول عام 2029.
ولاية كاليفورنيا ليست الوحيدة التي اتخذت خطوات لحل هذه المشكلة، كما أنها ليست الأولى؛ وافقت الحكومة الفرنسية على إجراء مشابه سيُطبّق في عام 2025، وأخذ المشرّعون في ولاية أوريغون الأميركية ومقاطعة أونتاريو الكندية إصدار مشاريع قوانين مشابهة في الاعتبار، وصرحت المفوضية الأوروبية بأنها ستتخذ خطوات مشابهة في عام 2025.
أشاد كل من علماء الأرض ومجموعات الناشطين البيئيين وبعض شركات الملابس الخارجية بهذه السياسات باعتبارها استجابة أولى مهمة لمشكلة كبيرة، لكن يشعر بعض خبراء الاستدامة بالحيرة من التركيز الكبير على غسالات الملابس. يشك هؤلاء في أن أثر المرشحات سيكون بليغاً، ويقولون إن ما يجب فعله حقاً هو إجراء تحول شامل في كيفية صنع الملابس وتنظيفها والتخلص منها.
اقرأ أيضاً: هل تساعدنا الشمس في التخلص من النفايات البلاستيكية في المحيط؟
ضرورة التركيز على دورة الحياة الكاملة للملابس
يقول أستاذ المواد المستدامة في جامعة ليدز، ريتشارد بلاكبرن (Richard Blackburn)، إن غسالات الملابس تمثّل "إحدى المراحل التي تُطرح فيها المواد من الملابس في دورة حياتها، والتركيز على هذه المرحلة القصيرة للغاية هو ضرب من الجنون. سيكون من الأجدى بكثير التركيز على دورة الحياة الكاملة للملابس التي تعتبر مرحلة التصنيع فيها أهمّ من مرحلة الغسل من ناحية المواد المطروحة. مع ذلك، يجب مراعاة جميع المراحل".
تحتوي نسبة 60% من المنسوجات حالياً على المواد الاصطناعية، ويعرف أي شخص ارتدى بنطال اليوغا أو ملابس التمرين أو الجينز القابل للتمدد مزايا هذه المواد؛ إذ تزيد من نعومة الملابس ومرونتها وقدرتها على امتصاص الرطوبة، ولكنها تبدو مثل المواد البلاستيكية تماماً تحت المجهر. تطرح الملابس الاصطناعية، مثل أي نوع آخر من الملابس، شظايا صغيرة من نسيجها منذ اللحظات الأولى بعد صنعها، وبمجرد تحرر هذه الألياف يصبح التقاطها صعباً للغاية. لكن يثير كل من حجم هذه الألياف وشكلها وقدرتها على امتصاص المواد الكيميائية قلق العلماء بشأن تأثيرها في المواطن الطبيعية والسلسلة الغذائية.
دعمت المديرة المشاركة لسياسات البلاستيك الأميركية في المؤسسة غير الربحية، أوشن كونسرفنسي (مؤسسة حفظ المحيطات) (Ocean Conservancy)، آنيا براندون (Anja Brandon)، مشاريع القوانين التي أُصدرت في ولايتَي كاليفورنيا وأوريغون. تقرُّ براندون بأن المرشحات لن تحل المشكلة، ولكنها تعتقد أنها تمثل خطوة أولى، وهي تدعم أيضاً التوصل إلى ابتكارات جديدة في تصنيع الملابس، ولكنها تعتقد أنها ستستغرق سنوات. تقول: "شخصياً، لا أرغب في الانتظار حتى تزداد خطورة المشكلة".
تشير الدراسات إلى إمكانية أن يؤدي غسل دفعة نموذجية واحدة من الملابس إلى طرح آلاف أو حتى ملايين الألياف. تعمل المرشحات المتوفرة تجارياً، مثل بلانيت كير (PlanetCare) ولينت إل يو في-آر (Lint LUV-R) وفيلترول (Filtrol)، على تصفية المياه التي استخدمت في الغسل بتمريرها عبر شبكة فائقة الدقة قبل طرحها في نظام الصرف الصحي. وبالطبع، تقع على المستخدم مسؤولية تفريغ المرشح دورياً (في كيس قمامة في أحسن الأحوال)، وتقول براندون إن هذا الإجراء يحصر الألياف الدقيقة ويمنعها من الوصول إلى الطبيعة كما يحدث عادة.
اقرأ أيضاً: ما هو منشأ النفايات البلاستيكية المتجمّعة في رقعة نفايات المحيط الهادئ؟
استجابت شركات تصنيع غسالات الملابس في الولايات المتحدة وأوروبا وقالت إن إضافة المرشحات ستتسبب بمخاطر تقنية يجب معالجتها أولاً، مثل فيضان المياه في غسالات الملابس وازدياد استهلاك الطاقة. لم تكشف التجارب الجامعية التي أجريت باستخدام هذه المرشحات، مثل دراسة يُستشهد بها عادة أجرتها جامعة تورنتو مع مؤسسة أوشن كونسرفنسي عام 2019، عن هذه المشكلات، ولكن هذا الأمر ليس محسوماً بعد. دعا تقرير فيدرالي عن الألياف الدقيقة ألّفه الخبراء في وكالة حماية البيئة والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي الأميركيتين في عام 2022 إلى إجراء المزيد من الأبحاث في هذا المجال.
تجادل الشركات المصنعة أيضاً بأن الألياف الدقيقة لها مصادر متعددة، وأن غسالات الملابس مصادر منخفضة الضرر. وعلى الرغم من أن هذه الادعاءات تبدو منحازة وتتوافق مع المصلحة الخاصة لهذه الشركات، يوافق العلماء الذين يدرسون هذه المسألة على أن الأدلة المتوفرة محدودة للغاية. على الرغم من أن العلماء يعلمون أن الملابس تطرح الألياف الدقيقة على مدار دورة حياتها، ولكن ما يثير الدهشة أنهم لا يعلمون متى تحدث النسبة الأكبر من عملية الطرح بالضبط.
يشير بعض الأدلة إلى أن الاحتكاك الناجم عن ارتداء الملابس قد يتسبب في طرح كمية من الألياف الدقيقة تساوي تقريباً تلك التي يتسبب غسل الملابس بطرحها. هناك أيضاً مشكلة أجهزة تجفيف الملابس، التي يتوقع بعض الخبراء أنها تمثّل مصدراً كبيراً لطرح الألياف الدقيقة على الرغم من أنها لم تخضع للدراسة كثيراً وفقاً للتقرير الفيدرالي السابق الذكر. ليس لدينا الكثير من المعلومات أيضاً عن مقدار التلوث بالألياف الدقيقة الناجم عن الدول النامية، حيث يغسل أغلب السكان الملابس يدوياً.
(سلّطت دراسة حديثة قادها باحثون من جامعة هانغجو ديانزي في مدينة هانغجو الصينية الضوء على هذه الفجوة في المعارف، ووجدت أن غسل نسيجين اصطناعيين يدوياً يطلق كمية من الألياف الدقيقة الملوِّثة أقل بنسبة تتراوح بين 80 و90% من الغسل باستخدام غسالات الملابس).
مصانع الملابس: مصدر التلويث الأكبر
من البديهي بالنسبة لبلاكبرن أن مصانع النسيج تتسبب بالنسبة الأكبر من الألياف الدقيقة المطروحة؛ إذ يعرف البشر منذ قرون أن كلاً من الغزل والنسيج وصبغ الأقمشة ومعالجتها يتسبب بطرح كمية كبيرة من الألياف، يقول: "أين ينتهي المطاف بهذه الألياف بعد خروجها من المصانع برأيك؟ إنها تنتشر في الهواء المفتوح".
اقرأ أيضاً: النفايات البلاستيكية: قاتلة بكتيريا الأكسجين في المحيطات
يصف بلاكبرن السياسات التي تفرض استخدام المرشحات بأنها "رجعية تماماً"، ويجادل بأنها قد تتسبب بانخفاض طفيف للغاية في نسبة الألياف الدقيقة الملوثة في أحسن الأحوال. هناك منحى واحد يتفق فيه بلاكبرن تماماً مع الناشطين البيئيين، وهو أن حل هذه المشكلة على المدى الطويل سيتطلب الاستفادة من الكثير من الابتكارات التكنولوجية. لم يتوصل العلماء إلى حل جذري بعد، ولكن تبين عدة إعلانات حديثة أن هناك الكثير من الجهات التي تعمل بجد في مجال البحث والتطوير لحل مشكلة التلوث بالألياف الدقيقة بأكثر من طريقة.
هناك بعض الممارسات المعروفة بالفعل في القطاع، على سبيل المثال، الملابس المنسوجة بإحكام أكثر وتلك المصنوعة من الألياف الطويلة بدلاً من القصيرة أقل عرضة للاهتراء. ولكن لسنوات، قالت العلامات التجارية الرائجة مثل باتاغونيا (Patagonia) وآر إي آي (REI) إن ما تحتاج إليه فعلاً هو طريقة لإجراء التجارب على العديد من المواد المختلفة ومقارنتها من ناحية قابليتها لطرح الألياف. ولكن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل، إذ إن الألياف الدقيقة صغيرة الحجم، ولا طريقة معيارية في هذا القطاع لقياس كميتها.
سياسات شركات تصنيع الملابس لتخفيف طرح الألباف الدقيقة
ولكن قد يتغير ذلك قريباً؛ في إعلانات منفصلة أُصدرت في شهر فبراير/ شباط 2023، كشفت شركة هونشتاين (Hohenstein) التي تطور المعايير الدولية حول المنسوجات وعلامة الملابس الرياضية التجارية، أندر آرمور (Under Armour)، عن طرق جديدة لقياس كمية الألياف الدقيقة. تسعى أندر آرمور إلى رفع نسبة الأنسجة "المنخفضة الطرح" في منتجاتها إلى 75% بحلول عام 2030.
يمكن أن تخفض هذه النُهُج من انبعاثات الألياف الدقيقة في أحسن الأحوال، ولكنها لن تساعد على إزالتها. يسعى الباحثون في مجال آخر يطلق عليه بلاكبرن اسم "التوافق الحيوي" (biocompatibility) إلى تخفيف الضرر الذي تسببه الألياف الدقيقة للطبيعة.
تبيع شركة إنترينزك أدفانسد ماتيريالز (Intrinsic Advanced Materials) التي مقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية مادة معالجة مسبقة تُضاف إلى الأقمشة في أثناء التصنيع، وتدّعي أنها تجعل البوليستر والنايلون قابلين للانحلال الحيوي في مياه البحر في غضون سنوات بدلاً من عقود. تطور شركة بلاكبرن الناشئة، كيراكول (Keracol)، الأصباغ الطبيعية المستخلصة من مواد مثل فضلات الفواكه، التي تتحلل بسهولة أكبر في الطبيعة مقارنة بالأصباغ الاصطناعية.
اقرأ أيضاً: من دون شك، كل نفاياتنا البلاستيكية تنتهي في القطب الشمالي
تظهر أيضاً أفكار جديدة للتخلص من الملابس، على الرغم من أن بعضها سيؤدي إلى إثارة استنكار الناشطين البيئيين؛ ستبدأ شركة المواد الكيميائية الأميركية العملاقة، إيستمان (Eastman)، ببناء منشأة في منطقة نورماندي الفرنسية في عام 2023، تدّعي أنها "ستفكك" المواد البلاستيكية التي تصعب إعادة تدويرها، مثل الملابس المصنوعة من البوليستر، وتحولها إلى طلائع كيميائية جزيئية يمكن استخدامها لصنع منتجات جديدة مثل الملابس ومواد العزل (الطلائع الكيميائية هي مركبات كيميائية تشارك في التفاعلات التي تشكل مركبات أخرى). يقول النقاد إن الفوائد البيئية لتقنيات "إعادة التدوير الكيميائي" هذه مشكوك فيها، كما أنها في الحقيقة مجرد حيلة تطبقها شركات الوقود الأحفوري للحفاظ على ارتفاع الطلب على منتجاتها.
هناك جهود في مجال البحث والتطوير تستهدف غسالات الملابس أيضاً. أعلنت شركتا باتاغونيا (Patagonia) وعملاقة تصنيع الأجهزة، سامسونج (Samsung)، في يناير/ كانون الثاني 2023 عن إصدار نموذج تدعيان أنه يخفض انبعاثات المواد البلاستيكية الدقيقة بنسبة تصل إلى 54%. يُطبّق هذا النموذج بالفعل في الدول الأوروبية وكوريا. وفي الوقت نفسه تقريباً، نشر باحثون من جامعة تورنتو بحثاً حول طلاء يدّعون أنه يجعل نسيج النايلون زلقاً أكثر في أثناء الغسيل، ما يقلل من احتكاك الملابس بعضها ببعض وانبعاثات الألياف الدقيقة بنسبة 90% بعد غسلها 9 مرات. عبّر مؤلفو الدراسة في بيان صحفي عن امتعاضهم من تركيز الحكومات على مرشحات غسالات الملابس، ووصفوا الإجراءات المتخذة بأنها "حلول موضعية" للمشكلة.
اقرأ أيضاً: ما بدائل البلاستيك وكيف يمكن التقليل من استعماله؟
والعامل المشترك بين هذه الجهود هو أن جميع المنخرطين فيها يعملون بناءً على معلومات غير مكتملة. تبين المعلومات العلمية المحدودة حول الألياف الدقيقة، والمواد البلاستيكية الدقيقة عموماً، أن هذه المواد جزء أساسي من حياة البشر العصرية، ولكن لا تبين الدراسات الحالية حجم الضرر الذي تلحقه بالبشر والأنواع الأخرى.
لا يناقش الناشطون البيئيون وصانعو السياسات والمصنعون حالياً إذا ما كان ينبغي وضع المرشحات في غسالات الملابس فحسب، بل يناقشون توفر ما يكفي من المعلومات لاتخاذ أي إجراء. في غضون 20 عاماً، سيتوصل العلماء إلى المزيد من المعلومات حول هذه المشكلة، وحينها سيصبح تحديد إذا ما كانت السياسات الحالية استباقية ورائدة لمعالجة مشكلة بيئية ناشئة أو مجرد حلول موضعية غير مجدية أسهل.