في تسعينيات القرن العشرين، استقبلت عائلة "آل بيتز" طفلاً جميلاً، أطلقوا عليه اسم "ستيفان بيتز"، كان لديه بعض التصرفات الغريبة مثل اصطدامه بالأشياء، ما يسبب له الكدمات والجروح، لكن لم يكن الطفل يظهر أي علامات تدل على الألم، ما جعل أبويه يفكران في أنه يعاني من التخلف العقلي. كان ستيفان يُلحق بنفسه الضرر دائماً، ففي إحدى المرات قص طرف لسانه دون أن يشعر بالألم ومرة أخرى قفز من فوق الدرج فأُصيب بكسر في مشط قدمه الأيمن. وفي سن الخامسة، ومع ازدياد حوادثه، كان لا بد من تشخيص حالته الغريبة تلك، وجاءت نتائج الفحوصات بأنه مصاب بحالة "عدم الحساسية الخلقية للألم" (CIP) اختصاراً لـ (congenital insensitivity to pain).
يقول الفيلسوف اليوناني "أرسطو":
"لا يمكننا التعلم دون ألم"
لماذا نشعر بالألم؟
إنه رد فعل من الجسم ينبهنا إلى المخاطر، على سبيل المثال، إذا اقتربت يداك من شمعة مضيئة، تبتعد يداك تلقائياً على الفور. هذه الحركة ليست عشوائية، وهناك سلسلة من الأحداث التي جرت خلال جزء من الثانية. فقد انتقلت إشارات إلى النخاع الشوكي وجذع الدماغ عبر مجموعة من الألياف العصبية، وهناك يعالج الدماغ تلك الإشارات ويترجمها إلى ألم، فيُعطي الجسم أوامر برد فعل على الخطر.
اقرأ أيضاً: استهداف الخلايا العصبية بالموجات فوق الصوتية من أجل تثبيط الألم
نظرية البوابة: تأجيل الشعور بالألم
في بعض الأحيان، لا يشعر الدماغ بالألم لفترة مؤقتة، غالباً ما يحصل ذلك في اللحظات التي ينشغل فيها الدماغ بأمور أهم، مثلاً في كثير من الأحيان لا يشعر شخص في الصالة الرياضية أو ساحة الحروب بالألم الذي يشعر به بعد انتهاء الموقف، وذلك بسبب تعطيل أحد الألياف العصبية -وهي ألياف بيتا- نقل إشارات الألم فلا تصل إلى الدماغ مؤقتاً، حيث تعمل تلك الألياف كالبوابة إلى أن يضع الدماغ الشعور بالألم كأولوية من جديد. وهذا يفسر لماذا عندما نقع على الأرض أو نتأذى من أي شيء ونبدأ في لمس المنطقة المصابة بلطف، يخف الألم بصورة مؤقتة، فهذا اللمس يمنع إشارات الألم من الانتقال لفترة مؤقتة.
لماذا قد لا يشعر بعض الناس بالألم نهائياً؟
يعاني واحد من كل 10 بالغين من الألم المزمن، إلا أنّ هناك حالات لا تشعر بالألم نهائياً، ويعاني المصابون بها من "عدم الحساسية الخلقية للألم"، وهي حالة جينية نادرة، لا يستجيب صاحبها لمحفزات الألم مثل درجات الحرارة. على سبيل المثال، في إحدى الليالي المدرسية، كانت فتاة أميركية تقلب قدراً مملوءاً بالماء المغلي في مطبخ منزلها، وكانت أمها في غرفة المعيشة تكوي الملابس، لكن فجأة شرد ذهن الفتاة فسقطت الملعقة داخل الماء المغلي، فما كان منها إلا أن مدت يديها لتلتقط الملعقة، لكنها لاحظت بعد ذلك الندوب على يديها، وركضت نحو الماء البارد ونادت أمها التي أدركت أنّ ابنتها تعاني من مشكلة ما، هذه الفتاة هي "أشلين بلوكر"، واحدة من أبرز الحالات الموثقة لمرض عدم الحساسية الخلقية للألم.
اقرأ أيضاً: باحثون في أستراليا يطوّرون جلداً اصطناعياً يستشعر الألم والحرارة
وعادةً ما يُصاب الأشخاص بهذه الحالة نتيجة حدوث طفرة في جين (SCN9A)، وهو مسؤول عن تنشيط بروتين يُسمى (Nav 1.7) الذي يساعد في نقل إشارات الألم إلى الدماغ، فيشعر الشخص بالألم. وعند حدوث الطفرة في نفس الجين يصبح الأشخاص غير قادرين على الشم.
وكانت أول حالة يتم الإبلاغ عنها عام 1932 لبائع تذاكر يبلغ من العمر 54 عاماً على يد طبيب أميركي يُدعى "جورج ديربورن"، ولأنها حالة نادرة، كان يصعب الوصول للمصابين بها حول العالم إلى أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت التواصل معهم، وحازت الحالة على اهتمام الأطباء والعلماء، فدراسة مثل هذه الحالات تعزز فهمنا للألم، ما قد يساعد في إيجاد أدوية وعلاجات للمصابين بالألم المزمن.
عدم الشعور بالألم: نعمة أم نقمة؟
يسعى البشر دائماً لتجنب الألم، حتى إنّ العالم يستهلك يومياً نحو 14 مليار جرعة من المسكنات، لذلك قد يبدو الأمر ممتعاً ألا يشعر المرء بالألم مهما حصل. لكن في الحقيقة إنّ الألم غريزة طبيعية تحمي الإنسان على الرغم من الشعور السيء الملازم له، فالألم يعمل كمنبه ليحذر الإنسان من وجود مشكلة أو إصابة في منطقة ما من جسده وعليه الاهتمام بها.
أما عن الشخص الذي لا يشعر بالألم، فهو معرض دائماً للمخاطر، وقد يُصاب دون أن يدري، ففي حالة ستيفان بيتز، لا يتذكر كم مرة ذهب فيها للمستشفى بسبب كثرة الإصابات. لذلك يمكننا القول إنّ الألم نعمة تساعد صاحبها في الشعور بالمشكلات التي يمر بها ليصبح أكثر وعياً بنفسه، ويتجنب الإصابات الخطيرة، ولا يتعرض للمخاطر المرتبطة بعدم الشعور بالألم وخاصة الأمراض التي قد تودي بحياته. يكفي أن تتخيل شخصاً لا يشعر بالألم تعرّض لنوبة قلبية أو التهاب في الزائدة الدودية أو الإصابة بحادث يسبب له إعاقة بقية حياته أو أي مرض يهدد حياته دون أن يشعر. الأمر مخيف.
نصائح لمن لا يشعرون بالألم
يحتاج المصابون بعدم الحساسية الخلقية للألم لإجراء فحوصات دورية للتأكد من عدم وجود أي إصابات لم ينتبهوا لها، ورعاية الذات جيداً وعدم استغلال هذه الحالة في فعل تصرف خطير مثل القفز من أماكن عالية أو تعريض النفس للنار أو أي شيء آخر يسبب جروحاً ومشكلات صحية خطيرة، لأنّ هذا المرض ليس له علاج حتى الآن، ولا يمكن تقديم شيء للمريض غير تثقيفه ببعض المعلومات والإجراءات التي عليه اتباعها عند إصابته أو تعرضه لخطر يستدعي الألم. وفي بعض الأحيان، عندما يتم تشخيص الحالة لأطفال صغار، يقترح الأطباء إزالة الأسنان اللبنية ليمنعوا الصغار من إيذاء أنفسهم دون أن يدروا، وهذا إجراء وقائي.