في أحد المؤتمرات الصحفية كان الجنرال "جورج مارشال"، وزير الخارجية الأميركية أثناء فترة الحرب العالمية الثانية، يتلقى بعض الأسئلة من الصحفيين. استمع مارشال لسؤال كل صحفي بتركيز، وبعد انتهاء الأسئلة، بدأ في الإجابة لكن الغريب في الأمر أنه تذكر كل الأسئلة بسهولة وكان ينظر إلى كل صحفي طرح سؤالاً ويجاوبه على سؤاله بدقة دون أن يخلط بين وجوه الصحفيين أو يسألهم أن يعيدوا السؤال. استطاع مارشال ربط الكلمات الرئيسية لكل سؤال بوجه الصحفي السائل، ما أثار ذهول الحاضرين وربما أثار ذهولك أنت أيضاً الآن.
حسناً، يمتلئ التاريخ بالعديد من هذه القصص لأناس أذهلوا الجميع بذاكرتهم القوية، والحقيقة أنّ تقوية الذاكرة مهارة نحتاجها في حياتنا اليومية، ويمكن اكتسابها عبر اتباع مجموعة من النصائح والقواعد.
اقرأ أيضاً: من الأطعمة إلى الألعاب: إليك أبرز الطرق لتقوية الذاكرة
مراكز الذاكرة في الدماغ
تنتشر فكرة خاطئة بأنّ الذاكرة تقع في منطقة واحدة من الدماغ، لكن الحقيقة أنّ الذاكرة يتم تخزينها في مناطق مختلفة من الدماغ بحسب نوع الذكريات. على سبيل المثال:
- الذاكرة الصريحة.
- الذاكرة الضمنية.
- الذاكرة العاملة قصيرة الأمد.
الذاكرة الصريحة أو العرضية
يتم تخزينها في 3 مناطق، وهي: الحُصين والقشرة الجديدة واللوزة الدماغية، كما يلي:
الحُصين
تُسمى هذه المنطقة أيضاً بـ "قرن آمون"، وتقع في الفص الصدغي. يحتفظ الحُصين بالذكريات العرضية المتعلقة بالأحداث الحياتية، مثل ذهابك للاحتفال بزفاف صديقك في الأسبوع الماضي. وقد اتضح دور الحُصين في تخزين الذاكرة عام 1953، ففي نفس العام كان هناك رجل يُدعى "هنري مولايسون"، يُعاني من الصرع، وكان الحل الأمثل لعلاجه هو إزالة الحُصين، فهو المكان الذي تنطلق منه نوبات الصرع.
وبالفعل، أجرى الأطباء له عملية جراحية، وتمت إزالة الحُصين، وعاش مولايسون 55 عاماً بعد إجراء العملية في حالة صحية ممتازة، لكنه فقد القدرة على الاحتفاظ بذكرياته، فلم يكن يستطيع تخزين الذكريات العرضية بعد وقوعها إلا لعدة دقائق. ربما لم يحتفظ بذكريات أو أحداث بعد العملية، وتبقى له فقط الذكريات التي وقعت قبل العملية. في نفس الوقت، استطاع هنري تطوير قدرته على أداء المهام الحركية، واتضح أنّ ذلك يرجع إلى تخزين الذكريات الحركية في منطقة العقد القاعدية (داخل المادة البيضاء) والمخيخ.
اقرأ أيضاً: الذاكرة العضلية هي أمر حقيقي، ولكنها على الأرجح ليست كما تعتقد
كان هنري حالة فريدة لفتت أنظار العالم، وإذا بحثت عنه على جوجل ستجد معلومات عنه، ما يعني أنه شخصية حظيت بشهرة واسعة، فقد كشفت العملية التي أُجريت له عن تنوع مراكز الذاكرة في الدماغ، وأنها ليست متركزة في منطقة واحدة فقط كما كان شائع من قبل.
القشرة الجديدة
إذا ذُكرت القهوة في أي مجلس، يشعر الناس تلقائياً بانتعاش، يرجع ذلك الشعور إلى منطقة في الدماغ تُسمى بـ "القشرة الجديدة"، وتشارك تلك المنطقة في الإدراك الحسي واللغة وتوليد الأوامر الحركية والتفكير المكاني وغيرها من الوظائف، وتنتقل المعلومات من الحصين إليها، ويعتقد العلماء أنّ هذا الانتقال يحصل أثناء النوم.
اللوزة الدماغية
هل تذكر آخر مرة شعرت فيها بالحزن؟ إذا تذكرت، فهذا بسبب اللوزة الدماغية التي ساعدتك على استعادة الذكريات العاطفية، حيث تستطيع اللوزة الاحتفاظ بالمشاعر مثل الحب والخوف والحزن والفرح والعار. ربما يفسر هذا سبب عدم نسياننا لمواقف بعينها، إذا كان تأثيرها العاطفي قوي لدرجة أنّ اللوزة الدماغية حفظتها في أعماقها.
الذاكرة الضمنية
توجد منطقتان في الدماغ تساهمان في عمل الذاكرة الضمنية، وهما: العقد القاعدية والمخيخ.
العقد القاعدية
هل تُحب العزف على الآلات الموسيقية أو ممارسة الرياضة؟ إذاً، عليك شكر منطقة العقد القاعدية التي تحافظ على تسلسل النشاط الحركي، وهي تقع داخل المادة البيضاء في الدماغ، وتشارك في العديد من الوظائف من ضمنها: تكوين العادات والتعلم والعاطفة وحركة العين.
اقرأ أيضاً: في صالة الرياضة: الحماس الزائد ربما يؤدي إلى انحلال العضلات
المخيخ
من مميزات الطعام الصيني أنه يؤكل باستخدام عيدان دقيقة، بالطبع يصعب على أغلبنا في الدول العربية تناول الطعام بتلك العيدان، لكن عند الاعتياد عليها نستطيع فعل ذلك، وذلك ببساطة لأن المخيخ قد حفظ طريقة إحكام أيدينا عليها، حيث يُساعدنا المخيخ في حفظ التحكم الحركي الدقيق.
الذاكرة العاملة قصيرة الأمد
وهي ذاكرة تحتفظ بكمية صغيرة من المعلومات، ويتم تخزينها في قشرة الفص الجبهي (PFC) في مقدمة الدماغ. تشهد تلك المنطقة نشاطاً عندما يقوم الإنسان بمهام تحتاج الاحتفاظ بالمعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد.
بعض النصائح لتعزيز الذاكرة
يُقال إنّ الإنسان يُسمى هكذا من النسيان، ويسعى العديد منا لتطوير ذاكرته، لذلك نقدم لكم بعض النصائح العلمية الفعّالة لتعزيز الذاكرة:
1- تناول الطعام الصحي
يُقال "العقل السليم في الجسم السليم"، وللحفاظ على ذلك الجسم سليماً، يجب الحرص على تناول طعامٍ صحي، ويمكن تحقيق ذلك عبر اتباع نظام مايند "MIND"، وهو نظام غذائي صُمم لإبطاء فقدان الدماغ لوظائفه ومنع الخرف مع التقدم بالعمر. يعتمد النظام على تناول بعض الأطعمة الصحية من ضمنها: الخضروات والتوت والحبوب والمكسرات والأسماك وزيت الزيتون والدواجن والفول. وقد أثبتت دراسة أجرتها الدكتورة "مارثا كلار موريس" وزملاؤها أنّ اتباع نظام مايند الغذائي قد قلل من معدل الإصابة بمرض ألزهايمر بنسبة 53%، ونُشرت الدراسة في دورية "ألزهايمر أند ديمينشيا" (Alzheimer's and Dementia) في فبراير/شباط 2015.
2- شرب كميات كبيرة من المياه
يُشكل الماء ما يقرب من ثلثي الجسم، ما يجعله ضرورياً لتنشيط الوظائف الحيوية وتعزيز الذاكرة قصيرة المدى والانتباه والحالة المزاجية والأداء العقلي، ويُساعد في تنظيم درجات حرارة الجسم وتوزيع الأكسجين، فقد وُجد أنه عندما تقل نسبة المياه في الجسم بنسبة 2%، تتأثر الذاكرة، لأن الماء بمثابة غذاء للدماغ.
3- الحصول على قسط كاف من النوم
أسفرت دراسة أجرتها مجموعة من الباحثين في هولندا بقيادة الدكتور "ريك فايسنج" عن أنّ مرحلة نوم حركة العين السريعة (REM)، تتداخل بشكل ما مع مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة وتعزز عملها. ونُشرت الدراسة في دورية "كارنت بيولوجي" (Current Biology) في يوليو/تموز 2019. لذلك يُنصح بالحصول على عدد ساعات كافٍ من النوم ليلاً.
4- أداء التمارين الرياضية
اتضح أنّ الأشخاص الذين يمارسون التمارين الرياضية بانتظام لديهم وظائف دماغية أفضل، حيث تساعد التمارين الرياضية في تعزيز تطور الروابط العصبية الجديدة، وترفع من مستوى عوامل التغذية العصبية المستمدة من الدماغ (BDNF). كما ترتبط بالنمو، وتساعد في تنظيم الروابط العصبية في أدمغة كبار السن. وفي هذا الصدد، خلصت إحدى الدراسات إلى أنّ ركوب الدراجة كل يوم لمدة 10 دقائق فقط يزيد من نشاط منطقة الحُصين في الدماغ، وهو مركز مهم من مراكز الذاكرة. ونُشرت الدراسة في دورية "بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس" (Proceedings of the National Academy of Sciences) في سبتمبر/أيلول 2018.
اقرأ أيضاً: ممارسة الرياضة في سنٍ متأخر تحسّن من الحالة الصحية
5- ممارسة التأمل
يبدأ الدماغ البشري في التدهور خلال فترة العشرينيات، لذلك يجب المحافظة عليه، ويمكن ذلك عبر ممارسة التأمل الذي يعزز قشرة فص الجبهة، ما يزيد الوعي والتركيز ويُحسن عملية اتخاذ القرارات، وهذا يعني أنّ ممارسة التأمل تساعد على تدريب الدماغ من جديد، إضافة إلى أنه يقلل التوتر ويُبطئ عملية الشيخوخة. وفي هذا الصدد، أشارت دراسة إلى أنّ التأمل قادر على تعويض التدهور المعرفي الذي يحدث مع التقدم بالعمر وتعزيز الوظائف الإدراكية لكبار السن. نُشرت الدراسة في دورية "آنلز أوف نيو أكاديمي أوف ساينس" (Annals of New York Academy of Science) في يناير/كانون الثاني 2014.
اقرأ أيضاً: هل يؤثر فيروس كورونا على الذاكرة والدماغ؟
هناك بعض الأشخاص يتمتعون بقدرات عالية، تساعدهم على تذكر أي شيء وفي أي وقت مثل الجنرال "جورج مارشال"، لكن هذا لا يعني أننا لا يمكننا تعزيز ذاكرتنا والوقوف عند حد معين، فقط نحتاج إلى تطوير العادات اليومية وتدريب عقولنا لتكون الفائدة عظيمة.