علماء الفلك يكتشفون آلية إصدار الثقوب السوداء الفائقة للنفاثات عالية الطاقة

4 دقائق
علماء الفلك يكتشفون آلية إصدار الثقوب السوداء الفائقة للنفاثات عالية الطاقة
يُظهر هذا الرسم التوضيحي مرصد آي إكس بي إي (على اليمين) يراقب مجرة ماركاريان 501 (على اليسار). النجم الزائف المتوهج هو ثقب أسود محاط بقرص من الغاز والغبار يصدر نفاثة ساطعة من الجسيمات عالية الطاقة الموجهة نحو الأرض. ويبيّن الرسم التوضيحي داخل الصورة الجسيمات عالية الطاقة في النفاثة (باللون الأورق). بابلو غارسيا (وكالة ناسا/مركز مارشال للرحلات الفضائية)

على بعد نحو 450 مليون سنة ضوئية من الأرض، وفي كوكبة الجاثي (كوكبة هرقل)، توجد مجرة تحمل اسم ماركاريان 501. وفي الصور المرئية التي التقطناها لهذه المجرة، فهي تبدو وكأنها كتلة من المواد العادية غير المثيرة للاهتمام.

لكن المظاهر يمكن أن تكون خادعة، خصوصاً في الفضاء الخارجي. تعتبر هذه المجرة مركز انطلاق للجسيمات المشحونة التي تتحرك بسرعات قريبة من سرعة الضوء. تنبثق من قلب مجرة ماركاريان 501 نفاثات من الجسيمات والإشعاعات عالية الطاقة التي تتوجه مباشرة إلى الأرض. يجعل ذلك هذه المجرة مختبراً مثالياً لدراسة هذه الجسيمات المسرّعة، ما سيساعد العلماء في فهم سبب تولّدها.

اقرأ أيضاً: تعرف على ماهية الثقوب السوداء الهائمة

في دراسة نُشرت بتاريخ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 في مجلة نيتشر (Nature)، تمكّن علماء الفلك من إلقاء نظرة غير مسبوقة على أعماق إحدى هذه النفاثات واكتشاف الظاهرة التي تتسبب بقذف الجسيمات المسرعة. يقول عالم الفلك في جامعة توركو في فنلندا والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية الجديدة، يانيس ليوداكيس (Yannis Liodakis): "هذه هي المرة الأولى التي نتمكن فيها من اختبار نماذج تسريع الجسيمات بشكل مباشر".

النجوم الزائفة المتوهجة

تعتبر مجرة ماركاريان 501 مثالاً نموذجياً على نوع خاص من المجرات يحتوي على ما يدعى بالنجم الزائف المتوهّج. ما يجعل هذه المجرة ساطعة للغاية هو الثقب الأسود الذي يوجد في مركزها. تنفث هذه المنطقة عالية الجاذبية كمية هائلة من الجسيمات عالية الطاقة، والتي تشكّل نفاثة تتحرك بسرعة قريبة للغاية من سرعة الضوء وتمتد عبر مئات الملايين من السنين الضوئية.

تحتوي العديد من المجرات على الثقوب السوداء الفائقة التي تصدر مثل هذه النفاثات. ويطلق علماء الفلك على المنطقة التي تصدر هذه النفاثات اسم النواة المجرية النشطة. لكن ما يميّز النجم الزائف الموجود في مركز مجرة ماركاريان 501 هو أن النفاثات موجّهة بشكل مباشر إلى الأرض. يستطيع علماء الفلك استخدام التلسكوبات الموجّهة نحو هذه النفاثات لرصد التيار المستمر من الجسيمات المحمولة على الأمواج التي تغطّي كل جزء من الطيف الكهرومغناطيسي، من الأمواج الراديوية الساطعة إلى إشعاع غاما الحارق.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تساعد الثقوب السوداء في تشكل النجوم؟

يمكن أن يصل تأثير النجوم الزائفة المتوهجة إلى مناطق بعيدة للغاية عن موقع المجرة التي تنتمي إليها. على سبيل المثال، رصد مكشاف مدفون تحت جليد القطب الجنوبي جسيماً يحمل اسم النيوترينو (وهو جسيم ذو كتلة صغيرة يعتبر رصده نادراً للغاية) توجَّه إلى الأرض من نجم زائف متوهج يحمل اسم تي إكس إس 0506+56. كانت هذه المرة الأولى التي يتمكن فيها الباحثون من رصد أحد النيوترينوات القادمة تجاه الأرض من مكان خارج المجموعة الشمسية يبعد 5 مليارات سنة ضوئية.

لكن لماذا تشكّل الثقوب السوداء الفائقة الضوء المرئي والأمواج الكهرومغناطيسية الأخرى؟ ما الذي يحدث داخل تلك النفاثات؟ وإذا وجدت نفسك داخل إحدى هذه النفاثات، ما الذي ستراه وما الذي ستشعر به؟

أسئلة بانتظار الإجابة عنها

يرغب العلماء في الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا يعود هذا إلى أن اكتشاف الأجوبة هو أمر مسلٍ فقط. تعتبر النجوم الزائفة المتوهجة مسرّعات طبيعية للجسيمات، وهي أكبر وأقوى بكثير من المسرعات التي يمكن أن يبنيها البشر على الأرض. من خلال تحليل الظواهر الفيزيائية التي تحدث داخل نفاثات هذه النجوم، يستطيع العلماء اكتشاف العمليات الطبيعية التي يمكن أن تتسبب في تسريع الجسيمات إلى سرعات تقترب من سرعة الضوء. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر النجم الزائف الموجود في مجرة ماركاريان 501 أحد أكثر النجوم الزائفة التي يرغب العلماء في دراستها نظراً لأنه قريب نسبياً من الأرض، وذلك مقارنة بالنجوم الزائفة الأخرى التي قد تبعد مسافات تتجاوز مسافة هذا النجم بمئات الملايين من السنين الضوئية.

اقرأ أيضاً: ماذا يمكننا أن نتعلّم من الثقوب السوداء المبكّرة؟

لذلك، بدأ ليوداكيس إلى جانب عشرات الباحثين من مختلف دول العالم في رصد هذا النجم. استخدم الباحثون مرصداً يحمل اسم مستكشف استقطاب الأشعة السينية الصوري (أو آي إكس بي إي اختصاراً)، وهو تلسكوب أطلقته وكالة ناسا في ديسمبر/ كانون الأول 2021 لرصد النفاثة التي يصدرها النجم الزائف الموجود في مجرة ماركاريان 501. على وجه الخصوص، درس هذا المرصد الأشعة السينية البعيدة المستقطبة وتوجهها في الفراغ، الأمواج التي تصدرها المصابيح الضوئية ليست مستقطبة، أي أنها تنتشر في جميع الاتجاهات. من ناحية أخرى، فالأمواج التي تصدرها شاشات إل سي دي (LCD، شاشات عرض البلورات السائلة) مستقطبة، أي أنها تنتشر في اتجاه واحد فقط. ولذلك، يمكنك أن تقوم ببعض الحيل مثل أن تجعل الشاشة غير مرئية. 

للمرة الأولى: اختبار تنبؤات النماذج الحاسوبية

إذا تمكّن العلماء من قياس استقطاب الأشعة التي تصدر من ثقب أسود، فقد يتمكّنوا أيضاً من معرفة ما يحصل داخله. وضع ليوداكيس وزملاؤه فرضية مبنية على المحاكيات والنماذج الحاسوبية التي قام الخبراء في مجالهم بإنشائها على مدى سنوات طويلة. يقول ليوداكيس: "هذه هي المرة الأولى التي نتمكّن فيها من اختبار تنبؤات هذه النماذج الحاسوبية".

وجد الباحثون أن سبب تشكّل النفاثات هو الأمواج الصادمة. وهي أمواج تتألف من جبهات من الجسيمات السريعة التي تصطدم بالجسيمات التي تتحرك بسرعات أخفض وتسرّعها كما تسرّع المياه المتدفقة الحطام العائم على سطحها. تتسبب هذه التصادمات في توليد الأشعة السينية التي لاحظها علماء الفلك في بيانات مرصد مستكشف استقطاب الأشعة السينية الصوري.

هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها علماء الفلك ظاهرة استقطاب الأشعة السينية لدراسة البيانات. ويقول ليوداكيس: "تمثّل النتائج الجديدة نقلة نوعية في فهمنا لمصادر النفاثات".

اقرأ أيضاً: لماذا يدرس العلماء الثقوب السوداء؟

في مقال مرافق للدراسة نُشر أيضاً في مجلة نيتشر، وصفت عالمة الفيزياء الفلكية في جامعة ييل، ليا ماركوتولي (Lea Marcotulli)، والتي لم تشارك في الدراسة، النتائج الجديدة بأنها "مبهرة"، وقالت: "هذه النقلة النوعية الهائلة تقربنا أكثر من فهم مسرعات الجسيمات المتطرفة هذه".

بالطبع، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها حول النفاثات التي تصدرها الثقوب السوداء الفائقة. هل يمكن تفسير وجود جميع الجسيمات التي سرّعها الثقب الأسود الموجود في مركز مجرة ماركاريان 501 بظاهرة الموجات الصادمة؟ وهل تحتوي المجرات والنجوم الزائفة المتوهجة الأخرى على موجات صادمة مشابهة؟

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تتحرك المادة بسرعة تتجاوز سرعة الضوء؟

يقول ليوداكيس إن فريقه سيستمر في دراسة الأشعة السينية التي تصدرها مجرات مثل ماركاريان 501 على الأقل حتى نهاية عام 2023. وهذا ليس غريباً لأن النجوم الزائفة المتوهجة هي ظاهرة مبهرة بالفعل.

المحتوى محمي