أصل الماء: من الأرض أم من السماء؟

أصل الماء: من الأرض أم من السماء؟
تصوّر فنّيّ يُظهر قرص تشكيل الكواكب حول النجم في 883 أوريونيس (V883 Orionis). تُظهر الصورة الداخلية نوعَين من جزيئات الماء التي دُرست في هذا القرص: الماء العادي الذي يتكون من ذرة أوكسجين واحدة وذرتين من الهيدروجين، ونسخة أكثر كثافة تتكون من ذرة أوكسجين واحدة وذرة هيدروجين واحدة وذرة ديوتيريوم واحدة. المرصد الأوروبي الجنوبي (ESO/L) كالسادا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يُعد الماء عنصراً أساسياً للحياة؛ لكن أصل وجوده على الأرض أو على أي كوكب آخر يمثل لغزاً محيراً منذ زمن طويل. هل تجمّع معظم المياه الموجودة على كوكبنا في أثناء تشكله من المواد التي كانت تدور حول الشمس في بداية نشأتها؟ أم أنه تجمّع على سطح الأرض في وقتٍ لاحق نتيجة اصطدامات المذنبات والنيازك؟ وما أصل تلك المياه؟ 

قدمت دراسة نُشرت في 7 مارس/  آذار 2023 في مجلة “نيتشر” (Nature) دليلاً جديداً يدعم نظرية الأصل الأساسي للماء؛ وهي أن وجود الماء يسبق نشأة الشمس والنظام الشمسي، وقد تشكل ببطء مع مرور الوقت في سُحُب ضخمة من الغاز والغبار بين النجوم.

نظرية السديم الساخن

يقول عالم الفلك الذي يدرس تكوين النجوم في المرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية، جون توبين (John Tobin): “لدينا الآن دليل واضح على نشأة الماء ووجوده منذ البداية في الوسط النجمي البارد قبل أن تتشكل النجوم أصلاً”. حيث تشكَّل الماء، دون أن تطرأ أي تغيرات على حالته، من القرص الكوكبي الأوّليّ؛ وهو قرص دوّار من الغبار الكثيف والغاز يتشكل في مدار حول النجوم الحديثة التشكل وتتشكل منه الكواكب والأجسام الفضائية الصغيرة مثل المذنبات. يقول توبين إن المياه تنجذب إلى المذنبات دون أن يطرأ عليها أي تغير تقريباً.

وقد اقترح علماء الفلك روايات مختلفة لأصل الماء في الأنظمة الشمسية. يقول توبين إنه تبعاً لنظرية السديم الساخن؛ تؤدي الحرارة المرتفعة في القرص الكوكبي الأوّليّ الذي يدور حول نجم متشكل حديثاً، إلى تفكيك الماء والجزيئات الأخرى التي تتشكل من جديد عندما تبدأ الحرارة بالانخفاض.  

اقرأ أيضاً: صور فوهات القمر من المركبة أوريون تشير لاحتمال وجود الماء والجليد معاً

وتكمن مشكلة هذه النظرية في أنه عندما يتشكل الماء في درجات حرارة مرتفعة نسبياً في القرص الكوكبي الأوّليّ، يكون مختلفاً عن الماء الموجود على المذنبات والكويكبات. فنحن نعرف شكل هذه الجزيئات؛ إذ تُعتبر الصخور الفضائية مثل الكويكبات والمذنبات، كبسولات زمنية تحافظ على حالة المادة التي كانت عليها في بدايات النظام الشمسي، لذلك فإن الماء الذي يتشكل في القرص الكوكبي لا يحتوي على ما يكفي من الديوتيريوم (Deuterium)؛ وهو نظير الهيدروجين الذي يحتوي على نيوترون واحد وبروتون واحد في نواته، بدلاً من بروتون واحد كما هي الحال في الهيدروجين الطبيعي. 

ثمة نظرية مختلفة عن نظرية السديم الساخن تقول إن الماء يتشكل في درجات حرارة منخفضة على سطح حبيبات الغبار في السُّحُب الضخمة في الوسط النجمي؛ إذ تغير هذه البرودة الشديدة تركيبة جزيئات الماء، فيتشكل المزيد من الديوتيريوم بدلاً من ذرات الهيدروجين الطبيعية في جزيئات الماء (O2H)، وهي ما يشبه إلى حد كبير نسبة الهيدروجين إلى الديوتيريوم التي تظهر في الكويكبات والمذنبات.  

هل تشكل الماء على سطح حبيبات الغبار؟

يقول توبين: “يُعد سطح حبيبات الغبار المكان الوحيد الذي تتكون فيه كميات كبيرة من الماء الذي يحتوي على الديوتيريوم بكفاءة، بينما لا تنجح الطرائق الأخرى لتكوين الماء الذي يحتوي على الديوتيريوم والغاز”. 

اقرأ أيضاً: بقع ساطعة على المريخ تثير الجدل حول وجود الماء على سطحه

على الرغم من أن هذا التفسير منطقي من الناحية النظرية، فقد وجد العلماء في هذا البحث الجديد دليلاً على أن الماء في الوسط النجمي يمكن أن ينجو من الحرارة الشديدة في أثناء تكوين القرص الكوكبي الأوّليّ. 

استخدم الباحثون مصفوفة مرصد أتاكاما المليمترية/ دون المليمترية الكبيرة (Atacama Large Millimeter/submillimeter Array) التابعة للمرصد الأوروبي الجنوبي؛ وهي تلسكوب راديوي في تشيلي لمراقبة القرص الكوكبي الأولي حول النجم الفتي في 883 أوريونيس (V883 Orionis)، على بُعد نحو 1,300 سنة ضوئية من الأرض في كوكبة الجبار. 

يمكن لهذا النوع من التلسكوبات الراديوية التقاط مؤشرات وجود جزيئات الماء في المرحلة الغازية؛ لكن الغبار الكثيف الموجود في أقراص الكواكب الأوّليّة القريبة جداً من النجوم الفتية يحوّل الماء غالباً إلى جليد يلتصق بحبيبات الغبار على نحو لا يتيح للتلسكوبات ملاحظته. 

على المستوى الجزيئي: محيطات الأرض أقدم من النظام الشمسي

لا يُعد النجم في 883 أوريونيس (V883 Orionis) نجماً فتياً نموذجياً، فهو يتلألأ أكثر من المعتاد بسبب تساقط مواد من قرص الكواكب الأولية عليه، وأدت هذه الكثافة المتزايدة إلى تسخين الجليد الموجود على حبيبات الغبار أكثر من المعتاد؛ ما سمح لتوبين وزملائه باكتشاف دلائل على وجود الماء الغني بالديوتيريوم في القرص الكوكبي. 

يقول توبين: “إن وجود هذه النسبة من الديوتيريوم يمنحنا دليلاً قاطعاً على وجود الماء، لذلك فقد كان أمراً رائعاً أن نراقب هذا النظام الخاص ونحصل على دليل مباشر على تكوين الماء”. وهذا يشير إلى اعتبار المحيطات والأنهار الموجودة على سطح الأرض أقدم من الشمس نفسها على المستوى الجزيئي. 

اقرأ أيضاً: كيف ترسم الشمس سيناريو نهاية الحياة على الأرض؟

يقول توبين: “يجب أن نجري مزيداً من الأبحاث على الأنظمة الأخرى للتأكد من أن هذا لم يكن مجرد صدفة”. على سبيل المثال؛ من الممكن أن يتغير تركيب الماء بطريقة ما لاحقاً في ظل تطور الكواكب والمذنبات والكويكبات، ذلك أنها تتصادم لتشكل القرص الكوكبي الأوّليّ. 

ولكن بصفة توبين عالم فلك يدرس تكوين النجوم، فهو يفكر بالفعل في متابعة البحث من خلال دراسة بعض الحالات الأخرى، ويقول: “ثمة خيارات كثيرة جيدة للدراسة في منطقة تشكل النجم أوريونيس، كل ما علينا فعله هو العثور على نجم يدور حوله قرص كوكبيّ”.