يبدو إطلاق ثلاثي مرتّب بدقة من الأقمار الاصطناعية التي تطلق أشعة الليزر على بعضها مثل أفكار الخيال العلمي. لكن وكالة الفضاء الأوروبية ستحول هذه الفكرة إلى واقع بحلول عام 2035.
يشبه هذا المشروع الذي يحمل اسم "هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي" (Laser Interferometer Space Antenna، أو LISA)، تجربة لايغو (LIGO) الشهيرة التي هدفت لرصد الأمواج الثقالية، ولكن الفرق يكمن في أنه سيُجرى في الفضاء بدلاً من الأنفاق تحت الأرضية. تدير وكالة الفضاء الأوروبية هذا المشروع، وهو عبارة عن مشروع تعاوني مع وكالة ناسا واتحاد من العلماء. منحت وكالة الفضاء الأوروبية مؤخراً الموافقة الرسمية لفريق المهمة على بدء صنع المركبة الفضائية في يناير/كانون الثاني 2025، وهي تخطط لإطلاقها بعد عقد من الزمن. شعر علماء الفيزياء الفلكية الذين يعملون في المهمة، مثل عالمة الفيزياء الفلكية في معهد ماكس بلانك، سارة باتشوفسكي، بسعادة غامرة بسبب هذا الخبر، ووصفوا الموافقة على لمهمة بأنها "مرضية" و "مثيرة للغاية".
اقرأ أيضاً: ما هو ضغط الضوء؟ وكيف يساعد العلماء على تعزيز رصد الموجات الثقالية؟
ثلاثي الأقمار الصناعية ليسا
يقول عالم الفيزياء الفلكية في قبة أدلر الفلكية الذي يعمل في تعاون لايغو، مايكل زيفن: "سيرصد ثلاثي ليسا نوعاً لم يُكتشف من قبل من الموجات الثقالية"، وهي التموجات في نسيج الزمكان. تكشف الموجات الثقالية عن الطبيعة الفيزيائية للثقوب السوداء المتصادمة وانفجارات المستعرات العظمى الضخمة وحتى اللحظات الأولى من عمر الكون.
يضيف زيفن قائلاً إن المنظور الذي سيمنحنا إياه ثلاثي ليسا الجديد "يشبه رصد الكون في الضوء خارج النطاق المرئي أول مرة، مثل الأشعة السينية أو الأشعة تحت الحمراء، الذي مكننا من فهم الكون بعمق أكبر وساعدنا على تحقيق الكثير من الإنجازات العلمية وإجراء العديد من الاكتشافات".
منذ رصد الموجات الثقالية أول مرة في عام 2016، استكشف علماء الفلك الكون بحماس من هذا المنظور الجديد؛ إذ إنهم تمكنوا من كشف اللحظات الأخيرة قبل اندماج ثقبين أسودين وهما يلفان حول بعضهما بمسار حلزوني وتعلموا كيف تقع الأحداث التي تصدر الطاقة الأعلى في الكون، مثل المستعرات العظمى وتدفقات أشعة غاما، من خلال رصد الضوء والموجات الثقالية الناجمين عن الانفجارات الكونية في الوقت نفسه.
ليسا ولايغو والتداخل الليزري
الكلمات المشتركة في اسمي مشروعي ليسا ولايغو هي مقياس التداخل الليزري (laser interferometer)، وهي تصف إعدادات التجربة. يقيس العلماء في المشروعين كيف تتغير المسافة بين جسمين بمقدار طفيف للغاية بينما تعبر الموجات الثقالية الفراغ بينهما. ويستخدمون في مشروع لايغو لفعل ذلك ذراعين طويلتين تأخذان شكل نفقين ضخمين يبلغ طول كل منهما 4 كيلومترات. يحتوي النفقان على أنابيب ضخمة مفرّغة يتحرك ضوء الليزر فيها عابراً كل ذراع وينعكس عن مرآة في نهايته. تتغير خواص الضوء الذي يقيسه العلماء في النقطة التي يندمج فيها مجدداً بعد انفصاله إذا قطع الليزر مسافة مختلفة في أحد الذراعين نتيجة تشويه الموجات الثقالية للزمكان.
مع ذلك، التجارب الأرضية لا يمكن أن تتحسس أنواع الموجات الثقالية جميعها. يجب استخدام أنفاق طويلة مثل تلك في مرصد لايغو لتحسس التشوهات في الزمكان الناجمة عن الموجات الثقالية، ويمكن رصد أمواج أطول كلما ازداد طول الأذرع المستخدمة. أجهزة الكشف تحت الأرضية مثل لايغو أكثر كفاءة في تحسس الموجات الثقالية الأقصر، وهي الاهتزازات في الزمكان ذات التردد المرتفع للغاية التي تتولد في آخر ميلي ثانية قبل اصطدام الثقوب السوداء أو النجوم النيوترونية.
يعود ذلك جزئياً إلى أن الأرض غنية بالنشاطات التي يمكن أن تتسبب باضطراب أجهزة الكشف. يقول عالم إدارة الشحنة في مشروع ليسا الذي يعمل في مختبر أنظمة الفضاء الدقيقة في جامعة فلوريدا، سيمون باركيه إن "الزلازل والسيارات وموجات المحيط وحتى السحب التي تمر فوق أجهزة الكشف" تولدّ الضوضاء التي تمنع علماء الفلك من تحسس الاهتزازات المنخفضة التردد في الكون.
اقرأ أيضاً: علماء الفلك يستخدمون النجوم الميتة لرصد الأمواج الثقالية وفهم تاريخ المجرة
رصد الأمواج الثقالية الطويلة
أجهزة الكشف الأرضية محدودة من حيث أحجام التجارب التي تستطيع إجراءها؛ إذ إننا لا نستطيع أن نبني منشأة أكبر من الأرض ببساطة، أو حتى بمساحة أكبر من مساحة بضع ولايات، ما يمنعنا عن رصد الموجات الثقالية إلا إذا كانت قصيرة. من الناحية المقابلة، تستطيع مصفوفات توقيت النجوم النابضة مثل مرصد نانو غراف (NANOGrav) تحسس أخفض الترددات الناشئة من الثقوب السوداء الفائقة الضخامة بينما تقيس المسافات الشاسعة بين النجوم الميتة التي تحمل اسم النجوم النابضة. سيحتاج العلماء إلى قدرات مشروع مثل ليسا لرصد الموجات الثقالية ذات التردد المتوسط، بين المنخفض للغاية والمرتفع للغاية.
يقول زيفن: "لم نتمكن حتى الآن إلا من رصد مجال ضيّق من التشوهات في الزمكان. رصدت أجهزة الكشف الأرضية جزءاً صغيراً من الموجات الثقالية التي يمكن أن توجد في الكون. أبلغ العلماء مؤخراً أنهم تمكنوا من رصد الاهتزازات المنخفضة التردد الناجمة عن الثقوب السوداء الفائقة الضخامة عبر الكون باستخدام مصفوفات توقيت النجوم النابضة. وسيكون ثلاثي ليسا أول أداة فضائية مخصصة لرصد الموجات الثقالية، وهو سيتحسس الاهتزازات ذات الترددات المتوسطة".
سيتألف ثلاثي ليسا من 3 مركبات فضائية يحتوي كل منها على مكعب صلب من الذهب البلاتيني، وستُطلق أشعة الليزر تجاه بعضها لتحسّس أي تغيّرات ناجمة عن الموجات الثقالية. يتطلب تطبيق هذه الفكرة دقة هائلة؛ إذ يجب أن تكون المركبات الفضائية مستقرة للغاية بطريقة تضمن أن يؤثّر تشوه الزمكان فقط في كتل الاختبار، وذلك لقياس تموجات تبلغ أطوالها بضعة أجزاء من مليار جزء من الملليمتر فقط. يقول باركيه إن المسافة التي ستفصل بين كل مركبة في هذا الثلاثي "ستتجاوز قطر الشمس".
ستتيح هذه التكنولوجيا لعلماء الفلك تتبع تصادمات النجوم الثنائية في مجرة درب التبانة ورسم خريطة للجاذبية حول أكثر الثقوب السوداء وحشية في مراكز المجرات واختبار نظرية النسبية في وسط تسوده ظروف قاسية، ما "سيمكننا من رصد ظواهر قد تتعارض مع تنبؤات آينشتاين"، حسب تعبير باركيه.
اقرأ أيضاً: الأمواج الثقالية تبين لنا شيئاً أروع من الثقوب السوداء
يأمل العلماء أيضاً أن تساعد مهمة ليسا على حل لغز قائم من أمد طويل في علم الفلك، يتعلق بآلية اكتساب الثقوب السوداء الفائقة الضخامة حجمها الهائل. سيتمكن العلماء في التجربة القادمة أخيراً من رصد ما يدعى "الثقوب السوداء المتوسطة الكتلة"، وهي التي يصفها زيفن بأنها "النوع صعب الرصد من الثقوب السوداء"، التي تبلغ كتلها آلاف الأضعاف من كتلة الشمس وقد تمثل مرحلة انتقالية قبل مرحلة الثقوب السوداء الفائقة الضخامة.
يشير عالم الفلك المتخصص بالموجات الثقالية في جامعة مسيسيبي، سوميت كولكارني، إلى أهمية هذا الإنجاز بالنسبة للعلماء قائلاً: يوفر تأكيد أن مهمة ليسا ستُطلق في المستقبل القريب العديد من الفرص في مجال البحث ويثير العديد من التحديات التي يجب أن يتغلب عليها الجيل الجديد من علماء الفيزياء والفلك والمهندسين".