الماء عنصر أساسي للحياة على الأرض، وسيكون أساسياً في سفر الإنسان إلى أنحاء النظام الشمسي أيضاً. يصعب نقل الماء على متن مركبة فضائية بسبب وزنه، لذلك يفضّل الحصول عليه من الكواكب أو الأجرام السماوية التي يُراد الوصول إليها إذا كان ذلك ممكناً. لحسن الحظ، يوجد بعض الماء على سطح القمر وحصل علماء الفلك مؤخراً على معلومات أدق حول موقعه.
إذ كشفت عمليات الرصد الجديدة الواردة من تلسكوب صوفيا المحمول جواً، (الذي أكمل رحلته الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2022) عن خريطة تفصيلية لجزيئات الماء بالقرب من القطب الجنوبي للقمر. قُدمت هذه النتائج مؤخراً في مجلة علوم الكواكب (Planetary Science Journal) وعُرضت في المؤتمر السنوي لعلوم القمر والكواكب (Lunar and Planetary Science Conference) في الأسبوع الماضي، وتشكل هذه البيانات إجابة حاسمة عن أهم سؤال في علم الجيولوجيا وجهود البشر لاستكشاف الفضاء في المستقبل: أين يمكننا العثور على الماء على سطح القمر؟
أين يمكننا العثور على الماء على سطح القمر؟
يقول عالم الكواكب في جامعة كولورادو، والذي لم يشارك في البحث الجديد، بول هين (Paul Hayne): "ليست لدينا معلومات أساسية حول مكان وجود الماء أو كميته أو كيفية تشكّله".
أثارت مهمة القمر الاصطناعي إل كروس 2010 (LCROSS) التابع لوكالة ناسا الاهتمام لأول مرة بالطرف الجنوبي للقمر، عندما كشفت أجهزة الرادار عن وجود مياه متجمدة ومخزنة في أماكن لا يمكن لضوء الشمس الوصول إليها، مثل قيعان الحفر. وقد أضافت عمليات الرصد التي أجراها مسبار تشاندريان (Chandrayaan) الهندي مزيداً من الدلائل على وجود الماء على سطح القمر، لكن كانت ثمة مشكلة في طبيعة جزيئات الماء (H2O) التي حدّدها العلماء، إذ يمكن أن تتألف من تركيبة مختلفة من الهيدروجين والأوكسجين تسمى الهيدروكسيل (OH). لكن تلسكوب صوفيا استطاع البحث عن مجموعة أوسع من الخصائص الجزيئية والبحث عن أدلة مؤكدة على وجود الماء والتفريق بين التركيب الجزيئي للماء والتركيب الجزيئي للهيدروكسيل.
تقول عالمة القمر في وكالة ناسا، والمؤلفة المشاركة في الدراسة الجديدة، كيسي هونيبول (Casey Honniball): "هذه الأرصاد التي يقدمها تلسكوب صوفيا مهمة لأنها تحدد بصورة قاطعة مواضع جزيئات الماء على سطح القمر الذي يتعرض لضوء الشمس". يمكن أن يساعد رسم خريطة دقيقة للمناطق الجليدية علماء الكواكب على فهم كيفية تحرك الماء على سطح القمر، ومعرفة كيفية تشكّل هذا المركّب الحيوي في الأصل.
اقرأ أيضاً: أصل الماء: من الأرض أم من السماء؟
يقول مدير تلسكوب صوفيا والمؤلف الرئيسي للبحث، ويليام ريتش (William T. Reach): "لاحظنا وجود كمية أكبر من الماء في الأماكن المظلمة، حيث تكون درجة حرارة السطح أبرد". الأمر مشابه لكيفية الاحتفاظ بالثلوج في منحدرات التزلج التي لا تواجه الشمس هنا على الأرض.
أصل وجود المياه على سطح القمر
يدرس الباحثون تصورَين رئيسيين لشرح أصل وجود المياه على سطح القمر: إما تبخر الماء من المذنبات التي اصطدمت بالقمر، وإما الماء المحتبس في المعادن البركانية التي تشكلت منذ فترة طويلة. لكن حتى الآن، لم تساعد البيانات الواردة من تلسكوب صوفيا في تحديد مصدر الماء على القمر. يقول ريتش: "هذه مجرد ملاحظات، ولا تحمل تفسيراً جيداً وواضحاً".
على الرغم من أن فريقه ما يزال يحاول تحديد مصدر الماء المُكتشف، لكن الكشف عن وجود الماء بشكل عام يمكن أن يكون عاملاً مهماً في عمليات استكشاف الفضاء المستقبلية. يقول عالم الكواكب في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس (UCLA)، الذي لم يشارك في المشروع، تايلر هورفاث (Tyler Horvath): "إن الحجج المؤكدة على وجود الماء في القطب الجنوبي للقمر تشرح سبب استهدافنا لهذه المناطق باهتمام شديد من أجل المرحلة التالية من استكشاف الإنسان والروبوت للقمر".
من المؤسف أن تلسكوب صوفيا لن يتمكن من الاستمرار في رسم خرائط وجود الماء على سطح القمر، إذ أُحيلت طائرة بوينغ 747 (Boeing 747) المعدّلة والتلسكوب إلى متحف بيما للطيران والفضاء (Pima Air & Space Museum) في مدينة توسان بولاية أريزونا. يقول هورفاث: "آمل أن تساعد هذه النتائج في تمهيد الطريق لتطوير مرصد جوي آخر في المستقبل القريب".
اقرأ أيضاً: صور فوهات القمر من المركبة أوريون تشير لاحتمال وجود الماء والجليد معاً
تلسكوب صوفيا
على الرغم من النهاية المفاجئة للمشروع، تمكّن تلسكوب صوفيا من إجراء عدد كبير من عمليات رصد القمر -وغيره من الأهداف الفلكية الأخرى- في رحلاته النهائية. وفي الواقع، قدم التلسكوب الكثير من البيانات التي ما يزال العلماء يعملون على فرزها وتحليلها. تقول هونيبول: "ستستمر اكتشافات تلسكوب صوفيا لأعوام، ويمكن أن تساعد في إعداد الفرق للمهمات المستقبلية التي تتناول مسألة وجود الماء (H2O) في الفضاء. وتشمل بعض الأمثلة الرئيسية على ذلك إطلاق المركبة المدارية لونار تريل بليزر (Lunar Trailblazer) التابعة لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في وقت لاحق من هذا العام، ومركبة ناسا الطوافة لاستكشاف القطبية والبحث عن الماء، فايبر (VIPER)، و برنامج أرتميس (Artemis) الأميركي الذي يهدف إلى إرسال البشر إلى مناطق القطب الجنوبي من القمر الصناعي بحلول عام 2025.
اقرأ أيضاً: بقع ساطعة على المريخ تثير الجدل حول وجود الماء على سطحه
كما تشكل هذه المشاريع فرصة مثيرة تتمثل في نقل عيّنات من تربة القمر إلى الأرض، وهو أمر لم يحدث (بالنسبة للأميركيين على الأقل) منذ برنامج أبولو. يقول ريتش: "تُعد كل حبة تراب في المختبر عالماً كاملاً يحكي قصة تاريخ المواد على سطح القمر وتطورها". في الواقع، يمكن أن تساعد دراسة عيّنات من الجليد القمري وتحليلها في المختبرات في تحديد الشكل الذي يتخذه الماء على القمر.
حتى ذلك الحين، سيستمر علماء الكواكب في العمل من خلال الاستعانة بخرائط القمر التي رسمها تلسكوب صوفيا، والاستفادة من كل البيانات والمعلومات المتاحة.