أثّر استكشاف البشر للقمر على مدى العقود الستة الماضية في بيئة هذا التابع على نحو بليغ. وخضعت هذه البيئة لتغير شديد لدرجة أن بعض العلماء يجادل بأنه يجب إعلان بدء حقبة جيولوجية جديدة في القمر. اقترح فريق من علماء الأنثروبولوجيا والجيولوجيا في مقالة نُشرت بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2023 في مجلة نيتشر جيوساينس (Nature Geoscience) أنه يجب أن يُطلق على الحقبة التي يشهدها القمر حالياً اسم حقبة الأنثروبوسين القمرية (أو حقبة التأثير البشري القمرية)، وأنه يجب الحفاظ على هذا "التراث الفضائي" وفهرسته.
ما الغرض من هذا التصنيف؟
يستخدم العلماء مصطلح الأنثروبوسين لوصف العصر الذي بدأ فيه البشر التأثير على نحو بليغ في النظام البيئي للأرض وتركيبتها الجيولوجية. يبلغ عمر كوكب الأرض نحو 4.5 مليارات سنة، ونشأ نوع الإنسان الحديث منذ 200 ألف سنة فقط. لكن الإنسان العاقل غيّر الأنظمة البيولوجية والكيميائية والفيزيائية للأرض على نحو بليغ في هذه الفترة القصيرة من الزمن.
لم يتفق العلماء بعد على بداية عصر الأنثروبوسين، والارتياب في تحديدها كبير. يقترح البعض أن هذا العصر بدأ قبل آلاف السنين، في حين يميّز آخرون عام 1950 الذي اكتُشفت فيه نظائر البلوتونيوم الناجمة عن تجارب الأسلحة النووية في قاع بحيرة نقية نسبياً في كندا. انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى التي تتسبب بتسريع الاحتباس الحراري وتحمُّض المحيطات وزيادة معدّل انقراض الأنواع وتدمير المواطن الطبيعية، بالإضافة إلى عمليات استخراج الموارد الطبيعية، هي من العلامات الإضافية التي تبيّن أن البشر غيّروا كوكب الأرض على نحو بليغ.
قال عالم الآثار في جامعة كانساس والمؤلف المشارك للمقالة الجديدة، جاستن هولكوم، في بيان صحفي: "تشبه الفكرة التي طرحناها النقاش حول عصر الأنثروبوسين على الأرض إلى حد كبير، الذي ينطوي على تحديد مدى تأثير البشر في كوكب الأرض. وبالمثل، نجادل بأن عصر الأنثروبوسين القمري بدأ بالفعل، لكننا نريد أن نقي من حدوث الأضرار الجسيمة أو التأخّر في الاعتراف الرسمي ببداية هذا العصر حتى يتمكّن العلماء من قياس الهالة القمرية الكبيرة الناجمة عن الأنشطة البشرية، وعندها سيكون الأوان فات".
اقرأ أيضاً: 10 مهمات قمرية تاريخية مهّدت الطريق أمام مهمات أرتميس
64 عاماً من استكشاف القمر والتأثير فيه
هبطت مركبة لونا 2 الفضائية غير المأهولة التي أطلقها الاتحاد السوفيتي على سطح القمر أول مرة في 13 سبتمبر/أيلول 1950. وأطلق البشر أكثر من مائة مركبة فضائية إلى سطح القمر في العقود التي تلت ذلك. أرسلت وكالة ناسا وحدات أبولو القمرية في الستينيات والسبعينيات، وتمكّن العلماء الصينيون من إنبات أول شتلة على القمر في عام 2019. وصلت مهمة تشاندريان-3 التي أجرتها مؤسسة أبحاث الفضاء الهندية بنجاح إلى سطح القمر في أغسطس/آب 2023.
تسببت هذه النشاطات البشرية بإزاحة كمية من المواد على سطح القمر أكبر من تلك التي أزاحتها أحداث اصطدام النيازك والعمليات الطبيعية الأخرى.
يجادل الفريق في المقالة الجديدة بأن المهمات والمشروعات القمرية القادمة ستغير سطح القمر على نحو أشد. ويعتقد المؤلفون أن اعتماد الفكرة التي تنص على أن عصر الأنثروبوسين القمري بدأ قد يساعد على دحض الفكرة الخاطئة التي تنص على أن النشاط البشري لم يؤثّر إلا قليلاً في القمر وأن بيئة هذا التابع لا تتغير.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تبيّن أن القمر أقدم بنحو 40 مليون سنة مما اعتقد العلماء
قال هولكوم: "بدأ تأثير العمليات الثقافية يتفوق على تأثير العمليات الجيولوجية الطبيعية التي تحدث في القمر. تنطوي هذه العمليات على تحريك الرواسب، التي نطلق عليها اسم الحطام الصخري، في القمر. وتسهم الظواهر مثل اصطدام النيازك وأحداث تحريك الكتل وغيرها في هذه العمليات. مع ذلك، نلاحظ عندما نأخذ في الاعتبار تأثير اصطدام المركبات الجوالة والهابطة وحركة البشر على سطح القمر أن هذه النشاطات تتسبب باضطراب كبير في الحطام الصخري".
يعتقد مؤلفو المقالة الجديدة أن تضاريس القمر ستتغير جذرياً خلال نصف قرن من الزمن فقط؛ إذ أرسل العديد من الدول المهمات إلى سطحه.
قال عالم الفيزياء الفلكية في كلية لندن الجامعية، إنغو والدمان، لمجلة نيو ساينتست (New Scientist): "إن عصر الأنثروبوسين بدأ بالفعل على القمر". وأضاف قائلاً: "إن القمر ليس نشطاً جيولوجياً للغاية؛ إذ إنه قد يشهد حدث اصطدام كويكبي مرة كل مليوني سنة، ولكنه لا يشهد الكثير من الأحداث الدراماتيكية الأخرى". قال والدمان: "المشي على سطح القمر له تأثير بيئي أكبر من أي حدث يمكن أن يقع فيه خلال مئات الآلاف من السنين".
يمر القمر حالياً بفترة جيولوجية تحمل اسم العصر الكوبرنيكي. بدأ هذا العصر قبل أكثر من مليار سنة، ومرّت الأرض خلال هذه الفترة بنحو 15 عصراً جيولوجياً.
تخفيف التأثيرات البشرية في سطح القمر
الشعار غير الرسمي لإدارة المتنزهات الوطنية في الولايات المتحدة الأميركية هو "لا تلتقط سوى الصور ولا تترك سوى آثار الأقدام". ويعتقد مؤلفو المقالة الجديدة أنه يجب اتباع سياسة مشابهة في استكشاف القمر. يشمل الحطام الناجم عن المهمات البشرية إلى القمر مختلف المواد من أجزاء المركبات الفضائية والبراز إلى كرات الغولف والأعلام وغيرها.
قال المؤلفون: "نعلم أنه على الرغم من أن القمر لا يتمتّع بغلاف جوي أو غلاف مغناطيسي، فإنه يتمتّع بغلاف خارجي حساس يتألف من الغبار والغاز، إضافة إلى أنه يحتوي على الجليد داخل المناطق الدائمة الظلمة، وكلاهما عرضة لانتشار غازات العوادم. يجب أن تأخذ الجهات تخفيف التأثيرات الضارة في البيئات القمرية بالاعتبار في المهمات المستقبلية".
اقرأ أيضاً: لماذا يسعى الكثير من الدول إلى إرسال البعثات الفضائية إلى القمر الآن؟
يأمل الفريق أن يؤدي الاهتمام بالتأثيرات البيئية للأنشطة البشرية على القمر كما يحدث على الأرض إلى الحفاظ على قيمة هذا التابع التاريخية والأنثروبولوجية. لا توجد حالياً أي قوانين أو سياسات تمنع التسبب باضطراب في سطح القمر. ويأمل الفريق أن يثير عصر مفهوم الأنثروبوسين القمري إجراء محادثات حول التأثيرات البشرية في القمر وكيفية الحفاظ على القطع الأثرية التاريخية.