علماء الفلك يرصدون تدفقاً راديوياً قوياً على بعد 3 مليارات سنة ضوئية

4 دقائق
علماء الفلك يرصدون تدفقاً راديوياً قوياً على بعد 3 مليارات سنة ضوئية
صورة لتلسكوب "فاست"، وهو أكبر تلسكوب راديوي في العالم، قيد الإنشاء. رصد هذا التلسكوب مؤخراً تدفّقاً راديوياً سريعاً متكرراً. ديبوزت فوتوز

تظهر انفجارات هائلة منبثقة من أعماق الفضاء في بيانات علماء الفلك كتدفقات سريعة للموجات الراديوية. ويمكن أن تحمل هذه الانفجارات التي تدعى "التدفقات الراديوية السريعة" كمية من الطاقة في نبضة واحدة كالتي تصدرها الشمس في 100 عام. لكن نظراً لأن الدفقات لا تدوم غالباً سوى بضعة آلاف الأجزاء من الثانية، فعادة ما لا يكون لدى علماء الفلك الراديوي ما يكفي من المعلومات لفهم هذه الأحداث الكونية المتطرفة أو تحديد المكان الذي نشأت فيه الومضات بالضبط. لذلك لطالما كانت التدفقات الراديوية السريعة إحدى أكبر ألغاز علم الفلك.

موجات راديوية عنيفة

لا يعلم العلماء بعد ما هو سبب هذه الاندلاعات العنيفة للموجات الراديوية. يفترض بعض الفيزيائيين النظريين أنها تنجم عن تصادم أجسام شديدة الكثافة مثل الثقوب السوداء أو النجوم النيوترونية. بينما يفترض آخرون أن التدفقات الراديوية السريعة تنتج عن انهيار النجوم البعيدة.

يقوم علماء الفلك الآن بتجميع الأدلة التي يحتاجون إليها لحل هذا اللغز الفلكي. وهي تأتي من تدفّق متقطّع رُصد حديثاً يتمتّع بسمتين رئيسيتين قد تساعدان علماء الفلك في إلقاء نظرة أعمق على هذه الانفجارات الغامضة.

يأتي أحدث رصد للتدفقات الراديوية السريعة من "التلسكوب الراديوي الكروي ذي الفتحة البالغة 500 متر" (أو تلسكوب "فاست") في مقاطعة كوزاو الصينية. لكن هذا الانفجار لم يكن مجرد ومضة واحدة في بيانات علماء الفلك. إذ أنه تكرر في فواصل زمنية منتظمة ما سمح للباحثين بتحديد موقعه بعد إجراء أرصاد المتابعة باستخدام تلسكوبات مختلفة حول العالم. يرتبط هذا التدفق الذي أطلق عليه اسم "إف آر بي 20190520 بي" والذي وصف في ورقة بحثية نُشرت في مجلة "نيتشر" في 8 يونيو/حزيران 2022 بوجود مصدر منتظم للانبعاثات الراديوية بين النبضات. ويقع المصدر على حافة مجرة قزمة تبعد نحو 3 مليارات سنة ضوئية عن الأرض.

يحاول العلماء لفهم التدفقات الراديوية السريعة البحث عن الأحداث الانفجارية المتكررة مثل الحدث الأخير. يقول مؤلف الدراسة الجديدة وكبير العلماء في تلسكوب فاست وقائد قسم الأرصاد الراديوية في المراصد الفلكية الوطنية التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم "دي لي": "السؤال الأهم بالنسبة للجميع هو ’ما منشأ هذا الانفجار؟‘"، ويضيف: "نريد حقاً أن نعرف ما هي الأجسام التي يمكن أن تنتج هذه التدفقات الساطعة وما هي القوانين الفيزيائية التي تحكمها".

اقرأ أيضاً: اكتشاف أنماط متكررة من التدفقات الراديوية تأتي من أعماق الفضاء

كانت الغالبية العظمى من التدفقات الراديوية السريعة التي اكتشفها علماء الفلك منذ أن رصدت لأول مرة في عام 2007 أحداثاً فردية ومنفصلة. ولم تتكرر سوى 5% من جميع التدفقات التي تم رصدها والتي يتجاوز عددها 500 حدث.

تمثّل تلك الأحداث غير المتكررة تحدّياً إضافياً لدراسات المتابعة. يقول لي: "على الرغم من أن هذه التدفقات ساطعة للغاية، إلا أن كل واحد فيها هو حدث يقع مرة واحدة"، ويضيف: "بحلول الوقت الذي نلاحظ فيه هذه الأحداث من البيانات الفلكية، يمكن أن يكون قدر مر يوم كامل أو حتى شهر من الزمن. وعندها لا يمكننا العودة بالزمن ولن نستطيع رصد هذه الانفجارات الكونية بشكل مباشر".

الأحداث غير المتكررة مثيرة للفضول. ولكن يستطيع الباحثون كشف الأنماط في الطبيعة وفهم الظواهر المختلفة بعمق فقط عندما تتكرر هذه الظواهر.

ولهذا يمثل الرصد الأخير للتدفق الراديوي السريع فرصة للباحثين لحل لغز هذه التدفقات. هذه هي المرة الثانية فقط التي يتم فيها رصد تدفق راديوي سريع متكرر مع وجود مصدر مستمر للموجات الراديوية الأضعف بين النبضات. وتم رصد حدث مشابه لأول مرة في عام 2012. تم رصد تدفقات متكررة أخرى منذ ذلك الحين، ولكن لم يتم ربط أي منها بوجود مصدر مستمر للأمواج الراديوية، والذي يوفر لعلماء الفلك أموراً أكثر للدراسة.

اقرأ أيضاً: العملاق الجميل: اكتشاف وتصوير أول ثقب أسود في قلب مجرتنا درب التبانة

نتائج عمليات الرصد

يقول "نافين سريدهار"، مرشح لنيل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية في جامعة كولومبيا والذي يدرس التدفقات الراديوية السريعة ويجري عمليات المحاكاة لكشف القوانين الفيزيائية التي تحكم هذه الظواهر: "يولّد الرصد الأول المزيد من الأسئلة فقط. ولكن تكرار الأرصاد هو ما يساعدنا على الإجابة عن هذه الأسئلة". يضيف سريدهار، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "هذه فئة جديدة للغاية من الأحداث الفلكية، ويعتبر كل رصد جديد وكل نقطة بيانات كنزاً ثميناً".

يحاول العلماء تحديد سبب هذه الانفجارات العنيفة وما هي الأمور المختلفة التي يمكن أن تتسبب بها. جزء من هذا المسعى هو تحديد مكان نشوء هذه الانفجارات في الكون، لكن الباحثين يقومون أيضاً بتصنيف هذه الظواهر في فئات مختلفة. تم تقسيم هذه الظواهر حالياً إلى نوعين، التدفقات المتكررة والتدفقات غير المتكررة. ويضيف ارتباط هذه التدفقات بوجود مصدر مستمر للأمواج الراديوية المزيد من التعقيد.

اقرأ أيضاً:علماء الفلك يكتشفون نوعاً جديداً من المستعرات النجمية الصغيرة المعروفة باسم «مايكرو نوفا»

يقول سريدهار إنه بعد الرصد الأخير، "لم يعد بإمكاننا القول بثقة إن [التدفق الراديوي السريع الذي رصد في 2012] كان شذوذاً إحصائياً". بدلاً من ذلك، قد تمثّل التدفقات الراديوية السريعة المتشابهة فئة منفصلة من الانفجارات. يضيف سريدهار قائلاً: "لذلك لا يمكننا أن نعتبر أن كل التدفقات الراديوية السريعة متماثلة. وهذا يشير إلى ولادة فئة جديدة من هذه التدفقات".

يشير لي إلى احتمالية وجود تفسير آخر لهذه التدفقات. ويقول إن التدفقين المتكررين الأخيرين قد يكونا أصغر عمراً (أي أنهما لم يحدثا من زمن بعيد). تتمحور الفكرة حول ما تتوقع رؤيته بعد الانفجار مباشرة. لا تتبدد مخلفات الانفجار مباشرة. إذ أن توسع هذه المواد في الفضاء يستغرق بعض الوقت. إذا رصد علماء الفلك التدفقات في وقت مبكر، فقد يتمكنوا من تحديد ما إذا كانت تلك السحابة الأكثر كثافة من المقذوفات يمكن أن تكون مصدر تلك الانبعاثات الراديوية المستمرة. ويقول لي إن ذلك سيفسر أيضاً سبب نشاطها الشديد.

يقول سريدهار إنه على الرغم من أن التدفقات الراديوية السريعة الأخيرة تشبه التدفقات التي تم رصدها في 2012، إلا أنها ليست مطابقة لها. ويضيف أن النظرية التي تنص على أن هذه التدفقات قد تكون صغيرة السن بشكل خاص تعتمد على افتراضات حول أسباب هذه التدفقات. يقول لي أيضاً إنه من المنطقي أن يكون سبب التدفقات في هذه الحالة هو نجم مغناطيسي (وهو نجم نيوتروني له حقل مغناطيسي شديد للغاية). ولكن إذا كان المصدر فئة من الثقوب السوداء الثنائية التي تراكم المواد من النجوم القريبة على سبيل المثال، فسيولد هذا المصدر أيضاً الموجات الراديوية وسيزداد شدة بمرور الوقت.

يقول سريدهار: "يجب علينا أن نكتشف ما هي طبيعة التدفقات الراديوية السريعة حتى نتمكن من تحديد أسبابها".

اقرأ أيضاً: الكيلونوفا: حدث ناتج عن اصطدام نجمين نيوترونيين تتردد أصداؤه خارج المجرة

ففي نهاية المطاف، انفجارات الأمواج الراديوية ليست نادرة. يقدّر العلماء أن هناك المئات من التدفقات الراديوية السريعة التي تحدث في الكون يومياً والتي يمكن رصدها من الأرض. ولكن الباحثين بدؤوا للتو في محاولة فهم هذه الظاهرة الغامضة. كما أنها ليست اللغز الكوني الوحيد.

يقول لي: "نحن نعيش في كون ديناميكي للغاية"، ويضيف: "كما أننا نستمر في اكتشاف الظواهر الغريبة والغامضة التي يصعب فهمها أحياناً. عدد الأشياء المجهولة في الكون يفوق عدد تلك المفهومة بكثير".