يرصد تلسكوب جيمس ويب الفضائي أعماق الفضاء ويعود بالزمن إلى الوراء مع مرور كل يوم. آخر اكتشاف لهذا التلسكوب هو مجرة تُسمَّى "جيدس-جي إس-زد14-10" ( JADES-GS-z14-10). تشكّلت هذه المجرة بعد 300 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم، وهي أقدم مجرة رُصدت حتى الآن. أُعلن اكتشاف هذه المجرة، إلى جانب مجرة أخرى تبعد عن الأرض المسافة نفسها واسمها "جيدس-جي إس-زد14-11" ( JADES-GS-z14-11)، في أواخر شهر مايو/أيار 2024 في ورقة بحثية ألّفها فريق متعدد التخصصات بقيادة الباحث في جامعة مدرسة بيزا الثانوية العادية (Scuola Normale Superiore) في إيطاليا، ستيفانو كارنياني.
اقرأ أيضاً: تلسكوب جيمس ويب الفضائي يرصد أدلة على وجود نجم نيوتروني جديد
تلسكوب جيمس ويب الفضائي يرصد أقدم مجرة في الكون
يحسب علماء الفلك بُعد الأجسام مثل المجرة الجديدة من خلال تحديد ما يُسمَّى "قيمة الانزياح نحو الأحمر" لهذه الأجسام. تزداد الأطوال الموجية للضوء في أثناء تحركه عبر الفضاء لأن الكون يتوسع. تُعرف هذه الظاهرة باسم "الانزياح نحو الأحمر" لأن الموجات الضوئية تنزاح فيها نحو منطقة الأشعة تحت الحمراء من الطيف الكهرطيسي.
تزداد المسافة التي يجب أن يقطعها الضوء ليصل إلى الأرض، وبالتالي يزداد انزياحه نحو الأحمر، مع ازدياد بعد مصدره. صُمِمت أدوات تلسكوب جيمس ويب الفضائي لفحص الضوء الصادر عن المجرات البعيدة والمنزاح نحو الأحمر بدرجة عالية، وسمحت الحساسية التي تتمتّع بها هذه الأدوات للتلسكوب أن يحطم الأرقام القياسية لأبعد جسم يُرصد في التاريخ واحداً تلو الآخر. (أبعد مجرة رُصِدت حتى الآن هي مجرة جيدس-جي إس-زد14-10، وذلك بسبب قيمة الانزياح نحو الأحمر لضوئها البالغة 14.32).
مع ذلك، رصد الأجسام التي تبعد مسافة تساوي بُعد هذه المجرة صعب حتى بالنسبة لتلسكوب مرتفع الكفاءة مثل تلسكوب جيمس ويب. استخلاص معلومات عن هذه المجرات كافية للتوصل إلى استنتاجات نهائية حول خصائصها صعب غالباً لأن الضوء الذي تصدره خافت للغاية. لفتت مجرة جيدس-جي إس-زد14-10 انتباه علماء الفلك أول مرة لأنها بدت وكأنها استثناء لهذه القاعدة؛ إذ إنها كانت ساطعة للغاية على الرغم من أنها تتمتّع بانزياح كبير نحو الأحمر.
عملية رصد دقيقة
افترض العلماء في البداية أن هذا السطوع يعود إلى قربها في السماء (كما نراها) من مجرة أخرى أقرب للأرض. مع ذلك، سرعان ما استنتج العلماء أن هذه المجرة مميزة، وأن سطوعها الظاهري المذهل هو سطوعها الخاص بالفعل. بالنتيجة، أصبحت هذه المجرة مرشحة رئيسية للخضوع إلى فحص دقيق، وبرمج الخبراء كاميرا الأشعة تحت الحمراء القريبة في تلسكوب جيمس ويب لرصدها على مدى 5 أيام كاملة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أتاحت البيانات التي جُمِعت في عملية الرصد الدقيق هذه للعلماء إجراء فحص تفصيلي للبصمة الطيفية لهذه المجرة، ما أتاح لهم بدوره دراسة تركيبها الكيميائي وتطورها بعمق، وهو فحص نُشِرت نتائجه في ورقة بحثية منفصلة. يشير العلماء في هذه الورقة إلى أن كتلة النجوم في مجرة جيدس-جي إس-زد14-10 تبلغ "نصف مليار ضعف من كتلة الشمس، وأن المجرة شهدت ارتفاعاً كبيراً في معدل تشكّل النجوم في بضعة ملايين السنين الأخيرة".
اقرأ أيضاً: شاهد صورة جديدة من تلسكوب جيمس ويب الفضائي لسديم مذهل
وفقاً للنماذج الفيزيائية التي وُضِعت قبل إطلاق تلسكوب جيمس ويب، فإن وجود مجرة مثل هذه تتمتع بتلك الخصائص في هذا الوقت من عمر الكون ليس ممكناً؛ إذ يقول كارنياني: "تشكّل مثل هذه المجرة خلال 300 مليون سنة بعد الانفجار العظيم حدث مذهل". أجرى تلسكوب جيمس ويب سلسلة مستمرة من هذه الاكتشافات المذهلة، مُحدثاً ثورة في فهم العلماء لتوقيت تشكّل أولى المجرات من الغاز البدائي الذي أُطلق نتيجة الانفجار العظيم، وآلية حدوث ذلك. قال مؤلفو ورقة بحثية ثالثة نُشِرت في أواخر شهر مايو/أيار 2024 ركّزت على عملية رصد أوسع لحقل أصول جيدس (JADES Origins Field)، وهي المنطقة من السماء التي تحتوي على مجرة جيدس-جي إس-زد14-10: "وسّعنا نطاق رصدنا لماضي الكون بنسبة 40% خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من عمليات تلسكوب جيمس ويب الفضائي". قدّم وجود مجرات مضيئة مثل جيدس-جي إس-زد14-10 في الكون المبكر مفاجأة أخرى للعلماء.
تُعدُّ هذه المجرة، والأجسام المشابهة لها، موضع اهتمام لعمليات الرصد المستقبلية؛ إذ إن سطوعها المذهل يفتح المجال لرصد ما يُسميه كارنياني وزملاؤه في بحثهم "الفجر الكوني، أي الفترة التي وُلِدت فيها أولى المجرات"، مباشرة.