تملأ النيوترينوات الكون، لكنك لن تتمكن من التحقق من ذلك بعينيك. هذه الجسيمات دون الذرية صغيرة للغاية لدرجة أن الفيزيائيين اعتقدوا من قبل أنها عديمة الكتلة، كما أنها عديمة الشحنة الكهربائية. على الرغم من أن تريليونات النيوترينوات تدخل إلى جسمك كل ثانية، تعبر الغالبية العظمى منها دون أن تترك أي أثر.
ما سبب أهمية النيوترينوات؟
مع ذلك، يتوق علماء الفلك لرصد جسيم واحد من هذه الجسيمات. يعود ذلك إلى أن النيوترينوات تنتج من الأشعة الكونية، وهي جسيمات غامضة عالية الطاقة تتدفق باستمرار في جميع أنحاء الكون من الاتجاهات جميعها. لا يعلم علماء الفلك ما هو منشأ الأشعة الكونية أو كيف تنتشر أو حتى ممّ تتألف في أغلب الأحيان.
يمكن أن تساعد النيوترينوات الباحثين على اكتشاف كل ذلك، لكن عليهم أولاً أن يتمكّنوا من رصدها. أكد علماء الفلك حتى الآن أنهم تمكّنوا من رصد النيوترينوات التي نشأت من خارج مجرتنا. لكنّ فريقاً دولياً أعلن في ورقة بحثية نُشرت في مجلة ساينس (Science) بتاريخ 29 يونيو/ حزيران 2023 عن تحقيق هدف طال انتظاره، وهو أول رصد لنيوترينوات نشأت في مجرة درب التبانة نفسها.
اقرأ أيضاً: علماء الفلك يكتشفون آلية إصدار الثقوب السوداء الفائقة للنفاثات عالية الطاقة
أول رصد لنيوترينوات نشأت في مجرة درب التبانة
يقول عالم الفلك في جامعة ساليرنو في إيطاليا، لويجي أنطونيو فوسكو، الذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "هذا اكتشاف مهم جداً".
رصد هذه الجسيمات الشبحية ليس بالأمر السهل. ولا تشبه مراصد النيوترينوات التلسكوبات أو الأطباق الراديوية. بدلاً من ذلك، استخدم مؤلفو الدراسة مجموعة من الحفر التي شُكّلت في جليد القطب الجنوبي على عمق يتجاوز 1.6 كيلومترات في مرصد آيس كيوب للنيوترينوات. تراقب حساسات هذا المرصد، أسفل تلك الأعمدة وفي أعماق الظلام المتجمد، آثار الضوء المنبعث من الجسيمات التي تنتج عند اصطدام النيوترينوات بالمادة.
إشعاع تشيرنكوف
تبلغ سرعة الضوء في الماء أو الجليد نحو ثلاثة أرباع سرعته في الخلاء. وتستطيع الجسيمات عبور هذه الأوساط بسرعة أكبر من هذه السرعة (على الرغم من أن سرعتها لا تتجاوز سرعة الضوء في الخلاء). إذا حدث ذلك، تصدر هذه الجسيمات مخاريط من الضوء الساطع تحمل اسم إشعاع تشيرنكوف، وهي ظاهرة تشبه دويَّ اختراق حاجز الصوت في الهواء. يبحث بعض مراصد النيوترينوات، مثل مرصد أنتاريس (ANTARES) الذي يوجد في قاع البحر الأبيض المتوسط، عن إشعاع تشيرنكوف في الماء. لكنّ مرصد آيس كيوب يبحث عن هذه الجسيمات في الجليد.
حتى بعد أن وضع العلماء الأسس النظرية لكيفية رصد النيوترينوات، واجهوا مشكلة أخرى، وهي الضوضاء. ترصد كاشفات النيوترينوات باستمرار الجسيمات دون الذرية الناجمة عن عبور الأشعة الكونية بالطبقات العليا من الغلاف الجوي. ولكن كيف يمكن للعلماء رصد النيوترينوات الكونية الصغيرة للغاية بين هذا الكم الهائل من الجسيمات العالية الطاقة؟
رصد جسيمات النيوترينو
يكمن الجواب في فحص اتجاه الجسيمات. تتمتع النيوترينوات التي نشأت خارج المجرة بطاقات أعلى، وهي قادرة على عبور الأرض بسرعة أكبر. إذا تحسس الكاشف نيوترينو يبدو أنه خرج من الأرض، فهناك احتمال لا يستهان به أن منشأ هذا الجسيم هو الفضاء، وأنه مر عبر الأرض قبل أن يتحسسه الكاشف.
رصد مرصد آيس كيوب في عام 2013 أول النيوترينوات الكونية. وتمكّن العلماء في السنوات التي تلت هذا الرصد من تضييق نطاق المصادر المحتملة لهذه النيوترينوات لتشمل مجرات محددة. يقول الفيزيائي في جامعة ويسكونسن والعضو في تعاون مرصد آيس كيوب، فرانسيس هالزن: "رصدنا النيوترينوات التي نشأت خارج مجرتنا لـ 10 سنوات".
لكنّ الباحثين لم يتمكّنوا من رصد النيوترينوات التي نشأت في مجرة درب التبانة. يعتقد علماء الفلك أن مستوي هذه المجرة يجب أن يولّد الكثير من النيوترينوات. حاول العلماء في مرصد آيس كيوب رصد هذه النيوترينوات من قبل، لكنهم لم يتمكنوا من تحديد منشئها بثقة.
يقول العالم في جامعة دورتموند التقنية في ألمانيا والعضو في تعاون مرصد آيس كيوب، ميركو هونيفيلد: "ما تغيّر في التحليل الجديد هو أننا حسنّا آليات الرصد التي اتبعناها كثيراً".
اقرأ أيضاً: فلكي هاوٍ يلتقط صورة بالصدفة لنجم متفجر
مرصد آيس كيوب
حسّن فريق مرصد آيس كيوب كفاءة أدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة. تستطيع الشبكات العصبية المستخدمة اليوم تمييز النيوترينوات عن الضوضاء بدقة أكبر من أي وقت مضى. حلل علماء الفلك أكثر من 59 ألف رصد أجري في مرصد آيس كيوب بين عامي 2011 و2021 وقارنوها بالنماذج النظرية لمصادر النيوترينوات المحتملة.
بالنتيجة، هم واثقون من أن تدفّق النيوترينوات عبر المستوي المسطّح للمجرة، ومركزها على وجه الخصوص، يمكن أن يفسّر الأرصاد.
والآن، يسعى علماء الفلك إلى تضييق نطاق النقاط في السماء التي من المحتمل أن تكون النيوترينوات قد نشأت منها. يمكن أن تساعد أجهزة تحسس النيوترينوات الأكثر حساسية في هذه المهمة. سيُحدَّث مرصد آيس كيوب في وقت لاحق من هذا العقد، وسيُطلَق جيل جديد من مراصد النيوترينوات قريباً، مثل مرصد كيه إم 3 إن إي تي (KM3NeT) في البحر الأبيض المتوسط ومرصد جي في دي (GVD) تحت بحيرة بايكال الروسية.
اقرأ أيضاً: ما الكوكب الذي يمكن العيش عليه غير الأرض؟
يقول فوسكو: "أدت أرصاد مرصد آيس كيوب دوراً في إيضاح الصورة نوعاً ما. وأعتقد أنه يمكننا أن نحاول كشف المصادر المحددة لهذه الإشارة باستخدام التحديث الجديد". إذا تمكن علماء الفلك من فعل ذلك، يمكنهم تعلّم المزيد عن المصادر المولِّدة للأشعة الكونية، والتي يمكن أن تشمل المستعرات الأعظمية.
يقول هالزن: "الأشعة الكونية فقط هي التي تولّد النيوترينوات. لذلك، إذا رصدنا النيوترينوات، فسنرصد مصادر الأشعة الكونية. يتمثّل الهدف الأساسي لفيزياء النيوترينو في حل لغز الأشعة الكونية الذي يبلغ عمره قرناً من الزمن".
يقول هونيفيلد: "سيساعدنا ذلك على حل الكثير من الألغاز الكونية التي لم نكن قادرين على حلها من قبل".