في كل مرة تشرب فيها رشفة من الماء، ما تفعله هو أنك تشرب سائلاً يصل عمره إلى 4.5 مليارات سنة على الأرجح. الأرض مغمورة بمادة تديم الحياة قديمة قدم الكوكب نفسه تقريباً. لا يعلم علماء الفيزياء الفلكية تماماً منشأ الماء على كوكب الأرض؛ لكن الأدلة الظرفية تشير إلى أن النيازك التي تحتوي الماء ربما اصطدمت بالأرض عندما كانت هذه الأخيرة حديثة العهد. من المحتمل أن وابل الصخور هذا ساعد على تحويل الأرض الجافة إلى عالم رطب فريد من نوعه.
أو على الأقل، حوّل ذلك الأرض إلى عالم أكثر رطوبة. على الرغم من أن كوكب الأرض يحتوي ما يقدَّر بنحو 1,234 كوينتيليون لتر من الماء، فإنه أكثر جفافاً مما تتخيل. شبّه عالم الفلك في مختبر الفيزياء الفلكية الفرنسي في بوردو، شون ريموند، الأرض التي قد تصل نسبة الماء فيها إلى 0.023% بقطع البسكويت المملّح التي تبلغ نسبة الماء فيها نحو 2%. وعلى الرغم من ذلك، تقابل هذه النسبة كمية من الرطوبة أكبر بكثير من التي تمتّع بها كوكب الأرض في بدايته.
نشأة بالغة الجفاف
بُعيد تشكّل المجموعة الشمسية، كانت درجة حرارة بعض الكواكب مرتفعة للغاية لدرجة منعتها من احتواء الماء. يقول خبير الكويكبات في جامعة سنترال فلوريدا، هامبرتو كامبينز: "يُفترض أن الأرض والمريخ كانا جافين للغاية في بدايتهما"؛ ويعود ذلك إلى موقعهما في خط الصقيع في المجموعة الشمسية.
عندما كانت الشمس تتشكّل من سحابة غازية غبارية قبل 4.6 مليارات سنة، تسببت الحرارة الهائلة لتجمّع المادة هذا بتشكّل منطقة حدّية في الفضاء. كانت المناطق من الفضاء الأبعد من هذا الحد باردة بما يكفي لتصلّب حبيبات الجليد. (ويساعد ذلك على تفسير وجود الأقمار المحيطية؛ أي التي تتألف من محيطات الماء، حول الكواكب البعيدة مثل المشتري وزحل). لكن في المناطق داخل هذا الحدّ، تسببت الحرارة بتبخر الماء. تشكّلت الأرض والكواكب الداخلية الأخرى من الصخور الجافة والمعادن الكثيفة المتبقية بعد تبخّر الماء، ويُفترض أن حدثاً ما وقع بعد ملايين السنين زوّد هذه الكواكب بالماء. وضع علماء الفلك العديد من الفرضيات لتفسير ذلك.
يشير وجود الفوهات الصدمية على سطح القمر إلى أن المناطق داخل خط الصقيع قُصفت بالصخور الفضائية باستمرار، وكان أحد هذه الأحداث وابلاً عنيفاً بصورة خاصة يحمل اسم "القصف الشديد المتأخر". يعتقد بعض الخبراء أن تلك المقذوفات، وخصوصاً النيازك؛ وهي الأجزاء من الكويكبات التي تسقط على الأرض، كانت أشبه ببالونات كونية من الماء. يدعم هذه الفرضية اكتشاف أجري في عام 2010 لقشرة رقيقة من الجليد في كويكب يحمل اسم "24 تيميس". واكتشف علماء وكالة ناسا مؤخراً وجود المعادن الطينية الحاملة للماء في كويكب بينو القريب من الأرض ضمن مهمة رائدة هدفت لإعادة العينات إلى الأرض.
مع ذلك، من المحتمل أن وصول الماء إلى الأرض نتج من عمليات أخرى؛ مثل انحلال الهيدروجين في طبقة الصهارة لكوكب الأرض بفعل الغاز المتشكّل من السديم الشمسي الغمامي. وهناك أيضاً فرضيات أخرى لمنشأ الماء، ومن المحتمل أن هذه العملية حدثت على عدة خطوات.
يقول كامبينز؛ وهو عضو في الفريق الذي درس محتويات كويكب بينو: "لم نجمع المعلومات الضرورية جميعها لحل هذا اللغز بعد". مع ذلك، فهو يشير إلى دليل مهم يعطينا "فكرة عن منشأ محتمل للماء"؛ وهو نوع الهيدروجين في أنظمة الأرض المائية.
اقرأ أيضاً: حجر نيزكي عمره 4.5 مليار سنة قد يحل لغز أصل الماء على الأرض
البحث عن عناصر متطابقة
تتألف ذرة النظير الأكثر انتشاراً للهيدروجين في الكون من بروتون وحيد يدور حوله إلكترون. ولكن يوجد نظير مختلف قليلاً للهيدروجين يحمل اسم "الديوتيريوم" تحتوي ذراته نواةً تتألف من بروتون ونيوترون. قاس علماء الفلك نسبة الديوتيريوم إلى الهيدروجين العادي (أو نسبة دي-آتش) في المياه على الأرض، وبحثوا عن الأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية التي تتمتّع بالنسبة نفسها.
اكتشف هؤلاء أن نسبة دي-آتش في نوع من النيازك يحمل اسم "الكوندريت الكربوني" مطابقة تقريباً لنظيرتها في مياه الأرض. على سبيل التشبيه؛ إذا كانت المجموعة الشمسية موقع بناء قديم، يمكنك تصوّر نيازك الكوندريت الكربوني على أنها الركام غير المنصهر في هذا الموقع.
تشكّلت هذه النيازك في منطقة خارجية من حزام الكويكبات أقرب إلى المشتري من المريخ؛ ما يعني أنها تشكلّت على الجانب الرطب من خط الصقيع على الأرجح. يقدّر ريموند أن نحو طن واحد من الصخور الفضائية الكربونية الغنية بالجليد والمعادن المائية كان كافياً لنقل ما بين 50 و100 كيلوغرام من الماء إلى الأرض. ويقول إنه عندما "ازدادت كتلتا المشتري وزحل بسرعة كبيرة"، قذف العملاقان الغازيّان تلك الصخور نحو الشمس والكواكب الداخلية.
يقول ريموند إن النيازك "تحتوي كمية كبيرة من المواد العضوية اللزجة" مثل الكربون والجزيئات الأخرى المرتبطة بأنواع الحياة كما أنها تحتوي على المواد المتطايرة؛ وهي مواد تتبخّر بسهولة عند تسخينها مثل الماء والزنك والهيدروجين التي تشكّلت في المراحل الأولى من عمر المجموعة الشمسية. على الرغم من أن هذه المواد توجد على الأرض اليوم، هناك بعض المواد المتطايرة المفقودة. يقول كامبينز: "إذا أسهمت نيازك الكوندريت الكربوني في إيصال الماء إلى الأرض، يُفترض أنها نقلت الغازات النبيلة إلى الكوكب أيضاً". لكن هذه النيازك لا تحتوي على الغازات النبيلة؛ ما يعني أن هناك مصدراً آخر نقل هذه الغازات إلى الأرض.
يشير كامبينز إلى أن المذنب 67 بي، الذي درسه العلماء عن كثب في منتصف العقد الثاني من القرن الجاري باستخدام مسبار روزيتا (Rosetta) التابع إلى وكالة الفضاء الأوروبية ومركبة فيلة (Philae) الهابطة، يتمتّع بالمحتوى المناسب من الغازات النبيلة.
يشير ذلك إلى الفكرة التي تنص على أن الغازات النبيلة والمياه (وغيرها من المواد غير المعروفة) وصلت إلى الأرض نتيجة اصطدام مجموعة من الأجرام الفضائية بالأرض. يقول كامبينز: "إذا افترضنا أن الكويكبات نقلت الكمية الأعظم من الماء إلى الأرض والمذنبات نقلت الكمية الأعظم من الغازات النبيلة إليها"، فهذا ينسجم مع نسب العناصر التي نقيسها. ويضيف قائلاً: "لكنني أعتقد أن الطبيعة أعقد بقليل من ذلك، ومن المحتمل أن هذين الحدثين لم يتزامنا".
في الواقع، تسلّط الأدلة الجديدة الضوء على نوع آخر من الصخور الفضائية نشأ في مناطق أقرب إلى الأرض.
اقرأ أيضاً: أصل الماء: من الأرض أم من السماء؟
الصخور المحلية
نيازك كوندريت الإنستاتيت هي نيازك تتمتّع بتركيب كيميائي مشابه لتركيب وحدات البناء الأساسية للأرض. يصنّف العلماء هذه النيازك على أنها "غير كربونية" لأنها تشكّلت في المجموعة الشمسية الداخلية، أي في الجانب الأقرب إلى الأرض من حزام الكويكبات. وعلى الرغم من أنها لا تحتوي كمية من الماء مساوية لنظيرتها في النيازك البعيدة، من المحتمل أنها أسهمت في نقل الماء إلى الأرض.
وفقاً لريموند؛ توصّل الباحثون في دراسة نُشرت في 2020 في مجلة ساينس (Science) إلى أن نماذج الفيزياء الفلكية السابقة قللت إلى حد كبير من تقدير كمية الهيدروجين في هذه النيازك، مستبعدين "الفكرة القديمة التي تنص على أن الصخور الموجودة في محيط الأرض كانت جافة". تتمتّع نيازك كوندريت الإنستاتيت بدرجة حرارة أخفض؛ ما يعني أن نسبة دي-آتش فيها قد تكون أقرب إلى نظيرتها في الأرض.
وفقاً لما كتبه ريموند في صيف عام 2023 في مجلة نوتيلوس (Nautilus)؛ ربطت مجموعة من الدراسات الحديثة النيتروجين والعناصر المتطايرة الأخرى على الأرض بكوندريت الإنستاتيت. يشير ريموند أيضاً إلى تحليل أجراه العلماء للزنك المرّيخي بيّن أن الحطام من المجموعة الشمسية الداخلية نقل هذا المعدن إلى الكوكب. إذا احتوت تلك النيازك الزنك، فمن المرجح أنها احتوت أيضاً مواد متطايرة أخرى؛ وبالتحديد الماء. احتوى المريخ الماء السائل في مرحلة ما من تاريخه، ومن المحتمل أنه ما يزال يحتوي الماء السائل تحت غطائه الجليدي.
اقرأ أيضاً: هل أتت الحياة إلى الأرض من الفضاء؟ وكيف يمكن أن يحدث ذلك؟
إذا نقلت الصخور الفضائية الماء إلى الكوكب الأحمر، فهل من المعقول أنها نقلت الماء إلى أماكن أخرى؟ يقول كامبينز: "لا يفيد ما نتعلمه عن المريخ في تعميق فهمنا لهذا الكوكب وتعزيز دقة تنبّؤنا بظواهره فحسب؛ بل إنه يساعدنا أيضاً على تحديد إن وصل كل من الماء والجزيئات العضوية إلى كواكب تدور حول نجوم أخرى؛ ما قد يؤدّي إلى تشكّل بيئات مواتية لظهور الحياة".
يمنحنا المزج بين هذه الأدلة فرضية تصف الأدوار التي أداها عدد كبير من الصخور المحلية الرطبة وعدد قليل من كرات الجليد البعيدة. يقول ريموند إن نظائر الهيدروجين والنيتروجين والزنك "تشير جميعها إلى حقيقة واحدة" عن الأرض الرطبة، من المرجّح أن النيازك غير الكربونية التي تجاهلها العلماء من قبل وفّرت نحو 70% من الماء على الأرض؛ بينما لامس القليل فقط من النيازك الكربونية سطحه الأزرق الشاسع.