للأسف، عمر الكون طويل جداً لدرجة أننا لن نتمكن من رصده في المستقبل وكشف آلية عمله. بدأ تاريخ الكون قبل مليارات السنين من ظهور نوعنا، وسيستمر على الأرجح بعد زوالنا. ولكن ماذا لو كانت هناك طريقة يمكننا النظر فيها إلى الماضي؟
نظرة على ماضي الكون
يفعل علماء الفلك ذلك بالضبط باستخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي الشهير؛ إذ إنهم يوظّفون هذا المرصد الفضائي العملاق لدراسة تاريخ كوننا بحثاً عن المجرات المبكرة. نتيجة لجهودهم، وجد العلماء مئات المجرات التي تتراوح أعمارها بين 11 و13 مليار سنة، والتي تحتوي على أنماط متنوعة للغاية من الأشكال المختلفة، من الأقراص والانتفاخات إلى التجمعات والتكتلات وغيرها. وفقاً لدراسة جديدة تم تقديمها مؤخراً في اجتماع الجمعية الفلكية الأميركية، والتي ستُنشر قريباً في مجلة الفيزياء الفلكية، تشكّلت هذه المجرات التي تحتوي على تجمعات من النجوم في وقت أبكر مما اعتقد الباحثون سابقاً من عمر الكون.
تقول عالمة الفلك في معهد روشستر للتكنولوجيا والمؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة، جيهان كارتالتيبي (Jeyhan Kartaltepe): "إنه لأمر رائع أن نتمكن من رؤية بنى هذه المجرات البعيدة بهذا الوضوح لأول مرة"، وتضيف: "هذه المجرات مثيرة للحماس للغاية".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تساعد دراسة المجرات المنعزلة في فهم تاريخ الكون؟
كيف يُقدر عمر المجرات؟
لتقدير عمر المجرات، استخدمت كارتالتيبي وفريقها طريقة متبعة منذ زمن في علم الفلك. تعتبر المجرات الأبعد عن مجرتنا في الكون أقدم، ويعود ذلك إلى أن سرعة الضوء لها قيمة منتهية. بالإضافة إلى ذلك، نظراً لأن الكون يتوسّع، يبدو الضوء المنبعث من المجرات الأبعد عنا أكثر احمراراً مما لو كانت المجرات التي تصدره أقرب؛ إذ إنه يتمدد مع انتقاله عبر الكون وصولاً إلى التلسكوبات التي تلتقطه. تمنح هذه الظاهرة، والتي تحمل اسم الانزياح نحو الأحمر، علماء الفلك طريقة سهلة لتحديد أعمار البنى في الكون.
ولكن ينتج عن هذه الظاهرة أيضاً أن البنى الأكثر انزياحاً نحو الأحمر تظهر وكأنها حمراء حرفياً، أو تصدر إشعاعات نقيسها على أنها تحت حمراء في أغلب الأحيان. لذلك، تستشعر الكاميرات التي نستخدمها الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من المجرات التي أصدرت ضوءاً أزرق اللون من مليارات السنين. هذه هي الأفضلية المميزة التي يمتلكها تلسكوب جيمس ويب الفضائي؛ إذ إنه يرصد الكون باستخدام الأشعة تحت الحمراء، ما يمكّنه من كشف هذه المجرات البعيدة التي تصدر الضوء الأحمر. بالإضافة إلى ذلك، هذا التلسكوب أكبر حجماً من التلسكوبات الفضائية التي سبقته. وفي عالم التلسكوبات، تزداد الكفاءة بازدياد الحجم.
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث عندما تعمل التلسكوبات الفضائية معاً لتصوير الكون؟
يعرف العلماء من دراسة البيانات التي جمعها تلسكوب هابل الفضائي، والذي يرصد الكون باستخدام الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء القريبة، أن كوننا احتوى على مجرات متنوعة ومثيرة للاهتمام منذ 11 مليار سنة. مع ذلك، لمعرفة عمر الأذرع الحلزونية الكبيرة والانتفاخات المستديرة الضخمة (مثل تلك الموجودة في مجرة درب التبانة)، احتاج الباحثون للنظر إلى نقاط أبعد في ماضي الكون.
يقول عالم الفلك في جامعة ميلبورن، بينجي ميثا (Benji Metha)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "لا نعلم ما الأحداث التي وقعت في المراحل المبكرة من عمر الكون والتي تسببت بتشكل الأقراص والانتفاخات. كما أننا لا نعلم متى حدث ذلك وكيف حدث. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن لدينا أي طريقة تمكّننا من الإجابة عن هذه الأسئلة قبل إطلاق تلسكوب جيمس ويب"، ويضيف: "يمكننا استخدام الأرصاد [المجرية] كسجلات أحفورية لدراسة ماضي الكون واكتشاف السمات التي تمتعت بها المجرات القديمة في زمن كان الكون فيه قيد التشكّل".
صور تلسكوب جيمس ويب الفضائي
جمع مؤلفو الدراسة الجديدة صور 850 مجرة التقطت باستخدام تلسكوب جيمس ويب، وقاموا بتصنيف هذه الصور تبعاً لأشكال المجرات النموذجية، وهي الأقراص (مثل مجرتنا الحلزونية، درب التبانة)، والتجمعات، والأشكال غير المنتظمة، أو المزيج من الأشكال الثلاثة. تم تحليل جميع البيانات يدوياً، وفحص علماء الفلك كل ملف. يقول ميتا: "ما أثار إعجابي في هذه الدراسة هو الطرق اليدوية المستخدمة فيها".
يشير ميتا إلى أنه قبل قرن من الزمن، استخدم عالم الفلك الأميركي إدوين هابل (Edwin Hubble) مرصد ماونت ويلسون في ولاية كاليفورنيا لتصنيف المجرات القريبة في أنواع مختلفة، ما أدى إلى إنشاء نظام التصنيف الذي يستخدمه معظم علماء الفلك اليوم. يقول ميتا: "استخدم مؤلفو الدراسة الجديدة نفس الطريقة التي استخدمها هابل. والتي تنطوي بشكل أساسي على معاينة الصور وكتابة ما يراه العلماء فيها".
وجد مؤلفو الدراسة العديد من المجرات ذات الأشكال القرصية، والتي قد تتطور لتصبح مجرات حلزونية مثل مجرة درب التبانة. وجد الباحثون أيضاً العديد من المجرات ذات الأشكال غير المنتظمة، وهي أشكال تنتج عن اقتراب الحقول الثقالية للمجرات من بعضها، ما يؤدي إلى قذف النجوم فيها أو اندماج المجرات تماماً.
تقول عالمة الفلك في جامعة تكساس بمدينة أوستن، أوليفيا كوبر (Olivia Cooper): "نلاحظ وجود مختلف أنواع البنى عبر عمر الكون قبل مليار سنة من الانفجار العظيم". تضيف كوبر قائلة إن الصور الجديدة "تبين ما يمكننا إنجازه باستخدام تلسكوب جيمس ويب، وتشير إلى أن الكون احتوى على المجرات في وقت أبكر مما اعتقدنا سابقاً".
اقرأ أيضاً: تلسكوب هابل يرصد اندماج ثلاث مجرات في حدث عنيف
إن احتواء الكون في مراحله المبكرة على مجرات متنوعة هو أمر محيّر، ومن المؤكّد أنه سيدفع علماء الفلك لتصميم نماذج أكثر دقة لفهم آلية تشكّل هذه البنى وتطورها. تبين الدراسة أيضاً أنه لرصد المجرات الأولى في الكون، سيحتاج الخبراء للنظر إلى فترات أقدم من عمر الكون باستخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي.