ستتوقف إحدى أنجح مهمات وكالة ناسا المريخية عن العمل قريباً. بعد 4 سنوات من إجراء الاكتشافات العلمية العظيمة، دخلت مركبة إنسايت الهابطة التابعة لوكالة ناسا مرحلتها الأخيرة. اقترب موعد توقف هذه المركبة عن العمل نتيجة فقدانها القدرة على توليد الطاقة بسبب تراكم الطبقات السميكة من الغبار المريخي على ألواحها الشمسية.
وصلت مركبة إنسايت إلى المريخ في عام 2018. وهي تعتبر المركبة الروبوتية الأولى التي نظرت في أعماق باطن الكوكب الأحمر لدراسة قشرته ووشاحه ونواته. أرسلت هذه المركبة منذ ذلك الحين كميات كبيرة من البيانات القيّمة والصور الدقيقة لسطح المريخ إلى العلماء على الأرض. باستخدام مزيج من الأدوات ذات الكفاءة العالية، ساعدت مهمة إنسايت العلماء في الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة حول آلية تشكّل الكواكب الصخرية وتطورها في مجموعتنا الشمسية والأنظمة الأخرى.
حتى وقتنا الحالي، يعتبر أحد أهم إنجازات مركبة إنسايت هو تحسس أكثر من 1300 زلزال مريخي وتوثيقها في محاولة لتحديد شدة النشاط التكتوني في الكوكب الأحمر. خلال فترة عملها، رصدت هذه المركبة أيضاً أحداث تصادم النيازك بكوكب المريخ.
على الرغم من أن مركبة إنسايت لا تزال نشطة حتى الآن، فإن علماء وكالة ناسا يتوقعون أن مهمّتها ستنتهي في وقت ما خلال الأسابيع القليلة المقبلة. وفي حين أن هذا حدث محزن دون شك، إلا أن توقّف إنسايت عن العمل ليس أمراً مفاجئاً. وفقاً لمعايير وكالة ناسا، تجاوزت هذه المركبة بالفعل الجدول الزمني الأصلي لمهمتها والذي يبلغ سنتين من الزمن.
ستنتهي مهمة إنسايت بشكل رسمي عندما تفوّت المركبة جلستي اتصال متتاليتين مع شبكة الاتصال المريخية. وهي عبارة عن مجموعة من 5 مركبات فضائية تدور حول كوكب المريخ وتنقل التعليمات والبيانات بين الأرض ومركبات المهمات الموجودة على سطح المريخ. بعد ذلك، سيتحسس أحد أنظمة الاتصالات الأخرى، وهو شبكة الفضاء العميق التابعة لناسا، حالة المركبة لفترة من الزمن للتأكد من أنها توقفت عن العمل تماماً. مع ذلك، وعلى الرغم من أن جميع المهمات تنتهي عاجلاً أو آجلاً، يقول عالم الأبحاث في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا وعالم المشروع في مهمة إنسايت، مارك بانينغ (Mark Panning)، إن مهمة إنسايت ستحتل مكانة خاصة دائماً بالنسبة له.
يقول بانينغ: "مهمة إنسايت هي المهمة التي عرفّتني على الفضاء"، ويضيف: "من وجهة نظر علمية، أنا أشعر بسعادة غامرة بسبب إنجازات هذه المهمة". لكن بعد أخذ مسيرة حياة مركبة إنسايت بأكملها بعين الاعتبار، يتّضح أن توقّفها عن العمل يفسح المجال لطرح أسئلة جديدة حول الشروط التي يجب أن تحققها المركبات المستقبلية لتتغلب على مشكلة الغبار المريخي، وما إذا كان بالإمكان إعادة المركبة إلى الأرض، وما سيحصل للبيانات التي جمّعتها.
تحضيراً لتوقف مهمة إنسايت، سنستعرض بعض الإجابات عن أهم الأسئلة.
اقرأ أيضاً: أول مركبة هبوط خاصة تحمل المستكشف الإماراتي راشد إلى القمر
مشكلة الغبار
التعامل مع الغبار المريخي هو مصدر إزعاج لا يمكن تجنّبه إذا أردنا إرسال المركبات إلى سطح المريخ. يمكن أن تكون عواصف الغبار على المريخ كبيرة وشديدة وخطيرة أيضاً في بعض الأحيان.
في عام 2018، أعتمت إحدى عواصف الغبار سماء المريخ لفترة طويلة لدرجة أنها تسببت بتعطّل مركبة أوبيرتونيتي الجوالة التابعة لوكالة ناسا، والتي تعتبر إحدى أقدم المركبات التي أرسلتها الوكالة وأنجحها. تم الإعلان عن تعطّل هذه المركبة تماماً بعد فشل العلماء الذين أملوا إعادة تشغيلها بعد العاصفة في التواصل معها. أما بالنسبة لإنسايت، فتقول كبيرة المهندسين في مختبر الدفع النفاث وقائدة عمليات تنسيق مهمة الفريق، إيميلي ستاف (Emily Stough)، إن هذه المهمة فاقت التوقعات بكثير عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المشكلات التي واجهتها.
في المحاولات السابقة للنجاة من عواصف الغبار، أدخلت مركبة إنسايت نفسها في وضع يحمل اسم الوضع الآمن بهدف توفير طاقة بطاريتها بعد أن حجب الغبار أشعة الشمس عن ألواحها الشمسية. بالإضافة إلى ذلك، في شهر مايو/ أيار من عام 2022، انخفض مستوى طاقة المركبة كثيراً، ما دفع علماء المهمة لإيقاف جميع أدوات المركبة العلمية بشكل مؤقت لضمان أن تحتوي على ما يكفي من الطاقة لتشغيل مقياس الزلازل، وهو عبارة عن أداة محدّبة تلامس سطح المريخ وتتحسس الاهتزازات الزلزالية. لمقاومة التأثيرات السلبية للغبار، صمم علماء وكالة ناسا الألواح الشمسية الخاصة بمركبة إنسايت لتكون كبيرة بما يكفي لتوليد كمية من الطاقة تبلغ أضعاف كمية الطاقة التي احتاجتها المركبة في بداية مهمتها.
لكن لماذا لا يتم تزويد المركبات المريخية بآلية تمكّنها من إزالة المواد التي قد تتسبب بتوقفها عن العمل؟
تقول ستاف إن غياب أجهزة مسح الألواح الشمسية في المركبات المريخية يتعلق بالتكلفة والفاعلية والمخاطر المحتملة. تشير ستاف أيضاً إلى أن إضافة المكونات الفنية غير الضرورية إلى تصميم المركبة قد يعرّض أهداف المهمة للخطر. تقول ستاف: "الحفاظ على بساطة التصميم هي إحدى الأفكار التي دائماً ما نحاول تحقيقها"، وتضيف: "كلما ازداد تعقيد المركبة، ازداد خطر فشلها في مهمتها".
اقرأ أيضاً: تحديث برمجي يحسن أداء مركبة مارس إكسبرس في دراسة أقمار المريخ
هل يمكن أن يتم تشغيل مركبة إنسايت مجدداً؟
بعد توقف هذه المركبة عن العمل، ستتولى مهامها مركبتا كوريوسيتي وبيرسيفيرنس التابعتان لوكالة ناسا. على الرغم من أن مركبة كوريوسيتي المخضرمة تبعد مسافة قدرها نحو 600 كيلومتر عن مركبة إنسايت، يقول العلماء إن إجراء مهمة إنقاذ باستخدام هذه المركبة ليس مرجحاً. يعود ذلك بشكل رئيسي إلى أن المسافة بين المركبتين أكبر من المسافة الكلية التي قطعتها مركبة كوريوسيتي منذ أن وصلت إلى المريخ في عام 2012.
إلى جانب جهود الوكالات الأميركية، لا تزال مركبة بارزة أخرى نشطة، وهي مركبة زورونغ الصينية الجوالة. تستكشف هذه المركبة منطقة من المريخ تحمل اسم سهل يوتوبيا المنخفض ويسعى فريقها لتعلم المزيد عن ظروف المريخ في الماضي.
ليس لدى وكالة ناسا حالياً أي خطط لإجراء ما تسميه الوكالة "التدابير البطولية" التي تهدف لإيجاد طريقة لإعادة الاتصال بمركبة إنسايت وإنقاذها بعد أن تصبح ألواحها الشمسية مغطّاة تماماً بالغبار. لكن من المحتمل أن تهب الرياح وتزيل ما يكفي من جسيمات الغبار عن هذه الألواح لتتمكن المركبة من شحن بطاريتها مجدداً. لكن وفقاً لبانينغ، فإن احتمال إعادة تشغيل هذه المركبة معدوم.
يقول بانينغ: "في الواقع، تم تصميم المركبة بطريقة تتيح لها إعادة تشغيل نفسها". من المحتمل أن تزول يوماً ما كمية من الغبار عن ألواح مركبة إنسايت كافية لتتمكن المركبة من إعادة تشغيل نفسها. ولكن حالياً، هذا الحدث مستبعد للغاية.
يضيف بانينغ: "نحن نعرف ما يجب علينا فعله لنكتشف أن المركبة عادت للعمل من جديد، لكننا لا نضع خططنا بناءً على ذلك بالتأكيد".
اقرأ أيضاً: مركبة بيرسيفيرنس التابعة لوكالة ناسا تبحث عن الميكروبات على المريخ
مصير البيانات
ستستمر مركبة إنسايت بالعمل وإجراء الأرصاد والتقاط الصور طالما أن علماء المهمة قادرون على التواصل معها. من المرجح أن يتم جمع جميع البيانات العلمية الخاصة بهذه المركبة، والتي تم نشرها بشكل دوري للعوام، لاحقاً في مجلد أحداث يحتوي على ملخص لجميع أنشطة المركبة. ستمثّل بيانات مركبة إنسايت كتذكار أخير نعياً علمياً يأمل العلماء اليوم أن يستخدمه علماء الأجيال المستقبلية في إجراء تجاربهم ودراساتهم الخاصة.
تقول ستاف: "ستموت هذه المركبة، ولكن البيانات العلمية ستكون خالدة نوعاً ما".