كيف يساعد تعديل الجينات على تكيُّف الأخطبوط مع بيئته وابتكار علاجات طبية لمعالجة الإدمان؟

كيف يساعد تعديل الجينات على تكيُّف الأخطبوط مع بيئته؟
أخطبوط كاليفورنيا ذو البقعتين، بيماكولويدس (Bimaculoides)، هو أول أنواع الأخطبوطات التي يحدث فيها تسلسل الجينوم، ما يجعله مصدراً مفيداً لدراسة رأسيات الأرجل. روجر هانلون
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يستطيع الأخطبوط فعل كل شيء، بدءاً من التمويه الذي يتميز به إلى رمي الأصداف على الأخطبوطات الأخرى، لكن الشيء الرئيسي الذي لا يستطيع القيام به هو تنظيم درجة حرارته الداخلية. يمكن أن تشكّل تغيرات درجة حرارة الماء تهديداً لوظائف دماغ الأخطبوط القوي بسبب هذه الثغرة التطورية، لكنه لا يزال قادراً على التعامل معها.

إنتاج بروتينات عصبية تحمي دماغ الأخطبوط من تبدلات الحرارة

أظهرت دراسة نُشرت في 8 يونيو/ حزيران في مجلة “سيل” (Cell) أن الأخطبوطات ذات البقعتين تتكيّف مع تغيرات درجات الحرارة الموسمية عن طريق إنتاج بروتينات عصبية مختلفة. وهي تفعل ذلك عن طريق تحرير الحمض النووي الريبي (RNA)، وهو الجزيء الذي ينقل المعلومات الوراثية من الحمض النووي إلى أماكن تصنيع البروتين في الخلية. يعتقد فريق البحث في هذه الدراسة أن هذه العملية تحمي دماغ الأخطبوط، ومن المحتمل أن تستخدم أنواع أخرى من الأخطبوط والحبار هذه الطريقة.

يقول المؤلف المشارك في الدراسة، وعالم الرياضيات الإحصائية في جامعة تل أبيب، إيلي آيزنبرغ (Eli Eisenberg)، لموقع بوبساي: “قبل عشر سنوات، كان يوجد بعض التلميحات التي تشير إلى حدوث شيء غريب، لكن لم يُجرَ أي تحليل منهجي لتحديد هذا الأمر، وكان هدفنا الأول هو تعيين مواقع تحرير الحمض النووي الريبي لدى الحبار بصورة منهجية ودقيقة”.

وجد العلماء أن الحبار يحتوي على عشرات آلاف مواقع التسجيل، التي توجد بصورة أساسية في أنسجتها العصبية، حيث يمكن أن تحدث تعديلات الحمض النووي الريبي. وسّع آيزنبرغ والمؤلف المشارك في الدراسة جوشوا روزنثال (Joshua Rosenthal) نطاق البحث ليشمل الأخطبوطات وشبكاتها العصبية؛ إذ أرادوا معرفة طريقة تعامل رأسيات الأرجل ذات الأدمغة المعقدة والمتطورة جيداً مع درجات الحرارة المختلفة التي تتعرض لها.

تعديل الحمض النووي للتكيف مع البيئة

تسمح طفرات الحمض النووي عادةً للكائنات الحية بالتكيُّف لفترات زمنية طويلة وعبر عدة أجيال. تُعد عملية تعديل الحمض النووي الريبي طريقة شائعة ومؤقتة وقابلة للتعديل للتكيُّف مع التغيرات البيئية مثل درجات الحرارة الموسمية.

يقول عالم الأحياء في مختبر الأحياء البحرية التابع لجامعة شيكاغو، جوشوا روزنثال، لموقع بوبساي: “ثمة تناقض بين هذه الطريقة وبين تحرير الجينوم باستخدام تقنية كريسبر (CRISPR)، وهي عملية اصطناعية تهدف إلى إجراء تعديلات في الحمض النووي، ويمكن أن تكون هذه التغيرات دائمة طوال حياة الكائن الحي، كما تسمح عملية تحرير الحمض النووي الريبي بإجراء تعديلات في الحمض النووي بصورة مؤقتة”.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى أوجه التشابه بين دماغ الأخطبوط ودماغ الإنسان

إعادة ترميز الحمض النووي الريبي في بضعة أيام فقط لدى رأسيات الأرجل

تُسمى عملية تعديل الحمض النووي الريبي التي تؤدي إلى تغيرات في بنية البروتين، “إعادة ترميز الحمض النووي الريبي“. تُعد هذه العملية نادرة الحدوث في معظم الكائنات الحية، لكنها تحدث بصورة شائعة لدى الأخطبوط والحبار. يمتلك البشر ملايين من مواقع التحرير التي تؤثّر في أقل من 3% من جيناتنا، بينما تستطيع رأسيات الأرجل القولونية أو “الذكية” إعادة ترميز معظم بروتيناتها العصبية.

يقول المؤلف المشارك في الدراسة وعالم الأحياء في جامعة سانت فرانسيس (St. Francis University)، ماثيو بيرك (Matthew Birk)، لموقع بوبساي: “بالنسبة للكائنات الحية الأخرى، فإن الطريقة الرئيسية لتغيير تسلسل البروتين والحصول على نوعٍ جديد من البروتينات هي من خلال الطفرات والتطور الطبيعي، وتستغرق هذه العملية أجيالاً ومئات أو آلاف السنين، بينما تستغرق الآلية التي تستخدمها رأسيات الأرجل بضعة أيام فقط. كانت هذه النتائج مثيرة للاهتمام بصورة كبيرة”.

أجرى الفريق تجاربه في هذه الدراسة الجديدة على أخطبوط كاليفورنيا ذي البقعتين في المختبر وفي البيئة الطبيعة. يُعد هذا النوع أولَ أنواع الأخطبوطات التي جرى تسلسل جينومها، وبالتالي، يُعد مصدراً موثوقاً لدراسة أنواع الأخطبوطات الأخرى. تتعرض الأخطبوطات، التي تعيش في البيئات الطبيعية، لتغيرات سريعة في درجة الحرارة، لا سيّما عند الغوص في أعماق باردة أو في أثناء أحداث التيارات المائية الصاعدة، بالإضافة إلى التغيرات البطيئة مثل تلك التي تحدث عند تغير الفصول.

قسّم الفريق أخطبوطات بالغة، اصطادوها من بيئتها الطبيعية، إلى مجموعتين؛ إذ وضعوا المجموعة الأولى في أحواض مياه دافئة تبلغ درجة حرارتها 22 درجة مئوية، فيما وضعوا المجموعة الثانية في أحواض مياه باردة تبلغ درجة حرارتها 13 درجة مئوية، وبعد عدة أسابيع قارنوا نسخ الحمض النووي الريبي لهذه الأخطبوطات مع نسخ الجينوم للعثور على علامات تحرير الحمض النووي الريبي.

يقول آيزنبرغ: “إحدى النتائج المدهشة التي توصلنا إليها هي أن الكثير من البروتينات ومواقع التحرير تغير عند تغيير درجة الحرارة، وكان معظم هذه التغيرات في الاتجاه نفسه”.

اقرأ أيضاً: الباحثون يكتشفون طريقة للتمييز بين الأخطبوطات المخططة القزمية

حدثت عملية التحرير في نحو 30% من الجينوم أو أكثر من 20,000 موقع. وفقاً لآيزنبرغ، فإن البروتينات التي عُدّلت هي بروتينات عصبية، وكانت المواقع المعدّلة جميعها حساسة لتغيرات درجات الحرارة، كما حدثت عملية التعديل بصورة أكبر في ظروف درجات الحرارة الباردة.

درس الباحثون رد فعل الأخطبوطات الصغيرة الحجم لمعرفة مدى سرعة حدوث هذه التغيرات؛ إذ رفعوا درجة حرارة الأحواض تدريجياً من 14 درجة مئوية إلى 34 درجة مئوية، كما خفّضوا درجة الحرارة بطريقة عكسية بمقدار درجة واحدة كل ساعة لمدة 20 ساعة تقريباً. بعد قياس عمليات تحرير الحمض النووي الريبي قبل تغير درجة الحرارة وبعد تغيرها مباشرةً، وبعد مرور 4 أيام، تفاجأ الفريق بسرعة حدوث عملية التحرير. يقول بيرك: “كانت التغيرات تحدث في غضون يوم واحد فقط، كما أن مستويات التحرير الجديدة كانت موجودة بعد 4 أيام واستمرت لمدة شهر”.

ثم بدأ الفريق دراسة احتمالية تأثير عملية إعادة الترميز على وظيفة بنية البروتين؛ إذ ركّزوا على بروتينين مهمَّين لوظيفة الجهاز العصبي، وهما بروتين كينيسين (kinesin) وبروتين سينابتوتاغمين (synaptotagmin). ووجدوا دليلاً على أن عملية إعادة الترميز غيّرت بنية البروتينات، ما قد يؤثّر في طريقة عملها.

يقول روزنثال: “أنا مهتم حقاً بمعرفة ما إذا كانت هذه الظاهرة تنطوي على عوامل أخرى غير العوامل البيئية الفيزيائية، إذا كان من الممكن أن تؤثّر العوامل والظروف الاجتماعية في طريقة ترميز الجهاز العصبي، فإن ذلك سيكون مثيراً للاهتمام، وقد يساعد على فهم طريقة تكيُّف الحيوانات مع بيئاتها المتغيرة، أريد أن أعرف ما الذي يكمن وراء هذا المستوى العالي من إعادة ترميز الحمض النووي الريبي المرسال”.

اقرأ أيضاً: أوكتلانتس: أرض الأخطبوطات السحرية

تطوير علاجات طبية للبشر

يمكن استخدام معلومات إعادة ترميز الحمض النووي الريبي وتحريره في تطوير علاجات طبية للبشر؛ إذ يعمل كلٌّ من روزنثال وآيزنبرغ على مشروع منحة من المعاهد الوطنية للصحة لمعرفة إمكانية استخدام تحرير الحمض النووي الريبي كعلاجٍ لإدمان المواد الأفيونية.

تساعد مثل هذه الدراسات على معرفة مزيدٍ من المعلومات حول هذه الكائنات البحرية ذات الأرجل الثماني. يقول بيرك: “يعتقد الناس أنهم يعرفون الأخطبوطات جيداً بسبب الأشياء المذهلة التي يمكنهم رؤيتها في هذه الكائنات بصورة ملموسة، لكننا الآن، بدأنا ندرك بصورة أكبر الأسرار المذهلة التي تحملها الأخطبوطات حتى في أصغر التفاصيل داخل أجسامها، إنها كائنات غريبة ومثيرة للفضول”.