يمتلئ خليج كيكيرتارسواك تونوا (Qeqertarsuaq Tunua، أو خليج ديسكو)، وهو خليج كبير على الساحل الغربي لغرينلاند، بالعوالق من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار من كل عام. تتجمع الحيتان البالينية في هذا الخليج لتتغذى على هذه العوالق الوفيرة، ودخل حوتان من الحيتان المقوسة الرأس إليه في عام 2010 لالتهامها. لم يستطع أي من الحوتين رؤية الآخر عندما أصبحت المسافة بينهما تساوي 100 كيلومتر أو أقل، لكن من المرجح أن كلاً منهما كان قادراً على سماع الآخر. حدث عندها أمر استثنائي؛ إذ بدأ الحوتان يزامنان عمليتي الغطس. لم يوثّق الباحثون هذا السلوك علمياً من قبل، ومن المحتمل أن هذا الرصد يمثّل دليلاً على فرضية عمرها 53 عاماً.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف آلية إصدار الحيتان أصواتها والفائدة منها
تواصل على بعد مئات الكيلومترات
يعتقد معظم العلماء أن الحيتان البالينية انعزالية، لكن يعتقد بعضهم أن هذه الحيتان ترتحل في قطعان متفرقة وتتواصل على مسافات تبلغ مئات الكيلومترات. عالم الأحياء الشهير روجر بين وعالم المحيطات دوغلاس ويب هما أول من طرح فرضية القطيع الصوتي في عام 1971.
تفاجأ بين، الذي أسهم في اكتشاف أغاني الحيتان الحدباء وتوثيقها قبل ذلك ببضع سنوات، بأن العديد من أنواع الحيتانيات ذات الأسنان، مثل الحيتان القاتلة والدلافين، اجتماعيّ للغاية ويتحرك أفراده معاً في مجموعات عائلية مترابطة. توفر هذه الجماعات الأمان من الحيوانات المفترسة وتتيح للحيوانات تربية صغارها على نحو جماعي. تكهّن بين بأن الحيتان البالينية الأكبر حجماً قد تسافر في مجموعات أيضاً، لكن على نطاق جغرافي أوسع. وربما ترسل هذه الحيوانات العملاقة الإشارات صوتياً لتتواصل عبر مسافات شاسعة.
بيّنت ورقة ويب وبين الأصلية حول فرضية القطيع الصوتي أن أصوات الحيتان الزعنفية، وهي أصوات منخفضة التردد تنتقل مسافات طويلة، يمكن أن تنتقل من الناحية النظرية مسافة هائلة تبلغ 700 كيلومتر في مناطق معينة من المحيط. مع ذلك، تقول عالمة البيئة السلوكية في جامعة سيراكوز في مدينة نيويورك، سوزان باركس، والتي تدرس الصوتيات الحيوانية، إن إثبات أن الحيتان تُصدر النداءات أسهل من إثبات أن متلقّي هذه النداءات حيتان أخرى تبعد مئات الكيلومترات.
شارك الباحثون على مدى أكثر من 50 عاماً روايات مقنعة حول الحيتان البالينية التي يبدو أنها تنسّق سلوكها عبر مسافات طويلة، لكن هذه الروايات ظلت مجرد قصص. تطلّب التوصل إلى أدلة على فرضية القطيع الصوتي جهود فريق بحثي متعدد التخصصات درس سلوك الغوص لدى الحيتان المقوسة الرأس في بحث جديد.
إثبات فرضية عمرها 50 عاماً
يقول عالم البيئة في جامعة هوكايدو في اليابان والمؤلف الرئيسي للبحث الجديد، يفغيني بودولسكي، إن سلوك الغوص لدى الحيتان المقوسة الرأس يبدو "عشوائياً وغير قابل للتنبؤ إلى حد كبير" للوهلة الأولى. يضيف بودولسكي قائلاً إن هذه الحيتان تجري رحلات غطس تستمر ساعات ثم تتوقّف دون سبب واضح.
هدف بودولسكي وفريقه إلى استنباط أنماط من هذه العشوائية الظاهرية. ثبّت الباحثون وسوم الأقمار الاصطناعية (وهي مستقبلات للإشارة الراديوية) على 12 حوتاً مقوس الرأس في المحيط المتجمد الشمالي واستخدموها لجمع بيانات حول أعماق غوص هذه الحيتان ومواقعه على مدى 144 يوماً. بعد ذلك، استخدم الباحثون خوارزميات معقّدة تعتمد على النظرية الشواشية، وهي فرع من الرياضيات يستخدمه العلماء لكشف الآليات الكامنة وراء الأنظمة التي تبدو غير منتظمة. ظهرت الأنماط التي بحث عنها الباحثون مع تحليل البيانات.
أولاً، لاحظ هؤلاء أن غوص الحيتان يتبع عادة دورة مدتها 24 ساعة؛ إذ إنه يبدأ بأعماق منخفضة في الصباح ويزداد عمقاً في فترة ما بعد الظهر. يتوافق ذلك مع ظاهرة تحمل اسم "الهجرة الرأسية اليومية"، وهي انتقال العوالق والكائنات الصغيرة الأخرى من سطح المحيط إلى الأعماق وبالعكس يومياً. اكتشف الباحثون أيضاً أن الحيتان تصل إلى أكبر الأعماق التي تغوص إليها في الربيع، حين تميل الهجرة الرأسية لتكون في أوجها في المناطق القطبية الشمالية.
يقول بودولسكي إن رصد كائنات بحرية كبيرة تلاحق فرائسها ليس غريباً، لكن ما فاجأه هو النمط الثاني. غاص حوتان في خليج كيكيرتارسواك تونوا (ما تزال العلاقة بينهما غير معروفة) على نحو متزامن خلال ما وصل إلى 7 أيام متواصلة كلما كانت المسافة بينهما تساوي 100 كيلومتر أو أقل. وفقاً لحسابات الفريق، هذه المسافة تقترب من النطاق الصوتي الأقصى للحيتان في المنطقة. يقول بودولسكي: "هذا سلوك تحت مائي غريب للغاية، وكانت الأنماط التي كشفناها مثيرة بحق".
اقرأ أيضاً: كيف تستخدم الحيتان المسنّنة أصواتها للصيد؟
يضيف بودولسكي قائلاً إنه من المحتمل أن التزامن كان محض صدفة، أي إن ظروف المحيط كانت مواتية لغوص الحوتين في الوقت نفسه في موقعين مختلفين. لكن بالنظر إلى اتساق هذا السلوك على مدى أيام عديدة، يبدو التفسير المعتمد على الصدفة مستبعداً إحصائياً. يقول بودولسكي: "نعتقد أن هذا السلوك يتعلق بالتواصل بطريقة ما".
تبدو فكرة أن الحيتان قد تزامن عمليات الغوص على مسافات طويلة منطقية تماماً بالنسبة للباحث في مجال الصوتيات الحيوية في جامعة كورنيل في نيويورك، كريستوفر كلارك، والذي التقى ببين سابقاً في مساره المهني. كلارك هو من العلماء الذين شهدوا الحيتان التي تزامن سلوكها عن بعد عدة مرات، وهو يقول إنه من المثير للاهتمام أن يتمكن بودولسكي من إثبات أن الحيتان تغوص بتزامن، لكن مؤلفي البحث الجديد لم يتمكنوا من إثبات أن الحوتين تواصلا صوتياً بالضرورة.
لماذا كان إثبات تواصل الحيتان عن بعد صعباً؟
يقول كلارك إن إثبات أن الغرض من نداءات الحيتان هو التواصل مع الحيتان الأخرى صعب لأن الموجات الصوتية ذات التردد المنخفض تتحرك ببطء شديد عبر المياه الباردة. قد تستغرق الموجات الصوتية أكثر من ساعة للوصول إلى حوت آخر، ما يعني أن مراقبة الكائنات وهي تتبادل النداءات سيكون صعباً بالنسبة للعلماء. يقول كلارك: "تنتشر هذه الموجات على مقياس غير قابل للرصد من قبل البشر". لن يحتاج الباحثون إلى استخدام المعدات المناسبة لرصد تبادل النداءات فحسب، بل سيحتاجون أيضاً إلى إجراء تحليل معقّد لربط الإشارة التي يصدرها حوت ما مع رد الفعل الواضح لدى حوت آخر.
بالنسبة لباركس، ما يجعل بحث بودولسكي مثيراً للاهتمام للغاية هو استخدام الرياضيات لتحليل سلوك الحيوانات. وهي تقول إنها متشوقة لأن يجري فريق الدراسة الجديدة دراسات مشابهة باستخدام بيانات الأصوات المسجّلة بالإضافة إلى بيانات وسوم الأقمار الاصطناعية في المستقبل. وفقاً لباركس، سيساعد ذلك على اكتشاف إذا ما كانت الإشارة التي يرسلها حوت ما تصل إلى أقرانه، عابرة مياه المحيط المتجمد الشمالي. تقول باركس: "ستكون هذه خطوة تالية رائعة".
اقرأ أيضاً: العلماء يكتشفون نوعاً من الضفادع تصدر أصواتاً لا يستطيع البشر سماعها
حالياً، يمثّل السلوك الموثق للحوتين المقوسَي الرأس أفضل دليل يبين أن فرضية بين وويب قد تكون صحيحة. ما يزال العلماء يجهلون معنى الإشارات التي أرسلها الحوتان. من المرجح أن تكون الرسائل المنقولة عبر مسافة بهذا القدر بسيطة، وربما كان الغرض منها تنبيه الحوت الآخر إلى وجود العوالق في المنطقة أو تنسيق التحركات لتجنّب البشر. ربما كان كل حوت منهما يحاول كشف موقع الحوت الآخر، وربما يفضّلان أن يعرفا أنهما ليسا وحيدين ببساطة، حالهما كحال البشر.