ما دور الأسماك في مكافحة تغيّر المناخ؟

15 دقيقة
ما الدور الذي تؤديه أسماك المنطقة المتوسطة العمق في المناخ؟
يمكن أن تكون أسماك المنطقة المتوسطة العمق التي لا يصل إليها سوى القليل من الضوء غريبة. غيتي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يقلب المحيط توقعاتنا رأساً على عقب بطريقة فريدة؛ إذ ترتفع الأمواج الغريبة التي يصل ارتفاعها إلى 4 طوابق ثم تنهار دون سابق إنذار، وينحني الضوء عبر سطح المحيط مشكّلاً صوراً لمدن وهمية تحوم فوق الأفق، ويتضّح أن المساحات المائية القاحلة ليست قاحلة على الإطلاق.

لاحظ العلماء على متن يخت يو إس إس جاسبر غرابة المحيط هذه في صيف عام 1942. أرسل عالم الفيزياء الصوتية، كارل أيرينغ، وزملاؤه الذين كُلّفوا بدراسة جهاز السونار الذي يمكن لأعضاء البحرية استخدامه للكشف عن الغواصات الألمانية، موجات صوتية إلى أعماق المحيط وهم يتمايلون في مياهه الهائجة قبالة ساحل سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية. ولكن كشف هؤلاء بعد عودة أصداء الموجات التي أرسلوها ظاهرة محيّرة؛ إذ استشعر السونار في كل موقع أرسلت منه السفينة الإشارات كتلة تتمتّع بصلابة تقارب صلابة قاع البحر تقع على عمق نحو 300 متر فقط تحت سطح البحر. ما زاد هذه الظاهرة غموضاً هو أن عمق هذه الكتلة بدا وكأنه يتغيّر خلال اليوم.

وضع العلماء الكثير من الفرضيات، مثل تلك التي تعزي هذه الظاهرة لوجود أسراب السمك أو العيوب في المعدّات المستخدمة. ولكن بخلاف توثيق هذه الظاهرة الشاذة، تجاهل العلماء وجودها منذ ذلك الحين. (ففي النهاية، كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها).

لم يُكشف اللغز حتى عام 1945، عندما ألقى عالم المحيطات، مارتن جونسون، الشباك في المحيط الهادئ لفحص هذه الظاهرة، واكتشف دون مجال للشك أنها ناجمة عن مجموعة ضخمة من الحيوانات البحرية التي لا يتجاوز حجم أغلبها حجم يد الإنسان، التي كانت تنتقل من أعماق المحيط إلى السطح ثم تعود مجدداً كل يوم.

اقرأ أيضاً: لماذا يؤثر التغير المناخي في معدل نمو بعض أنواع الأسماك؟

دور الأسماك في استقرار المناخ

حاول العلماء منذ أربعينيات القرن العشرين كشف تفاصيل هذه الهجرة العمودية والكائنات التي تنخرط فيها. وركّزت الأبحاث حتى وقتٍ قريب على العوالق الحيوانية والكائنات الحية الصغيرة الأخرى، وأهملت الحيوانات الأكبر التي تفترس هذه الكائنات. لكن منحت التقدّمات التكنولوجية العلماء القدرة على رصد السلسلة الغذائية في تلك المجموعة المهاجرة لفحص الأسماك الخفية والغريبة واللزجة التي تعيش في المنطقة التي تحمل اسم المنطقة المتوسطة العمق، وهي منطقة “الشفق” البحرية التي يتراوح عمقها بين 200 و1000 متر تقريباً، التي تصل إليها أشعة الضوء السطحي ولكن لا تخترقها، متبددة في الظلام الدامس للبحر أسفلها.

بدأت هذه الأبحاث تكشف عن حقائق بأهمية توثيق الهجرة العمودية أول مرة وغموضها؛ إذ إنها بيّنت أن الأسماك المهاجرة في منطقة الشفق، التي تتوزّع فيها بكثافة كافية ليتحسسها السونار، قد تؤدي دوراً مهماً في استقرار المناخ من خلال تحريك الكربون عبر المحيط.

يحاول الباحثون الآن تحديد كمية الكربون التي تنقلها الأسماك التي تعيش في أحد أكثر الأنظمة البيئية غموضاً على كوكب الأرض من سطح المحيط إلى الأعماق. ولكن تحقيق ذلك أصعب مقارنة بإجراء الأبحاث في المصايد التقليدية بسبب عدم قدرة الباحثين على دراسة هذه الأسماك مباشرة. مع ذلك، فإن دراسة هذه الظاهرة مُلحّة؛ إذ إن التقدّمات التكنولوجية نفسها التي تُتيح دراسة أسماك المنطقة المتوسطة العمق تجعل صيدها مرغوباً أكثر، على الرغم من أن التغيّر المناخي يهدد بتغيير النظام البيئي جذرياً.

لم يُستفد من أسماك المنطقة المتوسطة العمق تجارياً بعد، على الرغم من وجود مشروعات جارية حالياً لدراسة إمكانية تسويق هذه الأنواع وأفضل الطرق لصيدها. بالتالي، يجد العلماء الذين يبحثون في هذا المجال أنفسهم في الوضع غير المعتاد الذي يستطيعون فيه تقييم التبعات المحتملة لصيد الأسماك قبل أن يبدأ صيدها. لكن في ضوء جهل العلماء الكثير عن هذه الأسماك، هل سيتمكّنون بالفعل من تقييم تبعات صيدها قبل فوات الأوان، وذلك لصالحها وصالح البشر في الوقت نفسه؟

اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من تجربة حماية هذا النوع من الأسماك المهددة بالانقراض؟

ظواهر غريبة في أعماق المحيط

في يومٍ مشرق على سطح المحيط، ومع انعكاس أشعة الضوء عن الماء في كل اتجاه، يمكن أن تشعر بأنه لا وجود لشيء سوى ضوء الشمس في العالم. يخترق جزء من هذا الضوء سطح الماء ويصل إلى الطبقة الرقيقة من المحيط المُضاء المعروفة باسم المنطقة المضاءة، التي تأوي مختلف أنواع الأحياء البحرية مثل العوالق النباتية وأغلبية أنواع الحياة البحرية التي يصيدها البشر ويتاجرون بها والطحالب جميعها باستثناء تلك التي تعيش في أكبر الأعماق.

يبدأ ضوء الشمس بالزوال تحت هذه الطبقة، وتسود الظواهر الغريبة؛ إذ تصبح المياه أعكر من أن تتمكّن الأحياء من إجراء عملية التركيب الضوئي فيها، ولا يتوفر الكثير من الغذاء، وتنتشر الأسماك الغريبة للغاية. خذ سمكة التلسكوب مثالاً، وهي سمكة خيطية الشكل تعلوها مجموعة لؤلؤية من العيون الأنبوبية وتبدو أنها تبتسم ابتسامة قط تشيشر ذي الفم المكسو بالشعر الخشن، أو سمكة أفعى سلون، التي يمكن أن يتوسّع فكها لإمساك فريسة أكبر منها بأكثر من 50% بأسنانها الشفافة والمدببة للغاية.

بدأ عالم الطبيعة الأميركي، ويليام بيبي، استكشاف هذا النظام البيئي في عام 1932 باستخدام مركبة تحمل اسم كرة الأعماق (هي كرة فولاذية تُعلّق من سفينة أبحاث مثل البندول). مر بيبي بحوادث مروعة في جولاته الأولية خلال رحلة البحث، مثل تسرّب في محيط باب المركبة على عمق 90 متراً وفشل نظام الاتصالات.

وصل بيبي، الذي عمل بحماس هوسيّ لا هوادة فيه، إلى أعماق تزيد على 700 متر في النهاية، حيث شاهد أسماكاً يبلغ طولها نحو مترين تمتلك أنياباً “ينيرها المخاط أو تنيرها أضواء داخلية على نحو غير مباشر”، وإحدى أسماك أبو الشص التي كانت متوجة بثلاثة مخالب تحتوي على أضواء في نهاياتها. كتب بيبي لاحقاً: “لا يمكن أن يشعر أي مستكشف آخر بإثارة أكبر من التي شعرت بها، حتى لو كان يشاهد المناظر الطبيعية في المريخ”.

مع ذلك، قد يكون سلوك الأسماك التي تعيش في المنطقة المتوسطة العمق هو أكثر ما يلفت الانتباه، وليس أنواعها.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثّر إنشاء محميات بحرية على الأسماك في المناطق المجاورة؟

اختلاف سلوك الأسماك التي تقطن الأعماق السحيقة عن غيرها من الأسماك

ينخرط العديد من أنواع الأسماك التي تعيش في هذه المنطقة في أكبر هجرة منتظمة في العالم على نحو يومي. تنتقل الحيوانات مثل الأسماك الفانوسية (وهي من أكثر أنواع الأسماك شيوعاً في هذه المنطقة) في هذه العملية التي تحمل اسم الهجرة العمودية اليومية من المياه العميقة، حيث تكون محمية من الحيوانات المفترسة في أثناء النهار إلى السطح حيث تتغذى طوال الليل، وهي رحلة تقطع فيها هذه الحيوانات التي يبلغ حجمها حجم هاتف آيفون وتتألف النسبة الأكبر من أجسامها من الأعضاء الباعثة للضوء والعيون المستديرة الكبيرة مسافة تبلغ كيلومتراً واحداً. (تشبه هذه الأسماك أسماك السردين إن كانت عيونها كبيرة ومفتوحة بدرجة عالية).

بمجرد وصول الأسماك إلى السطح، فهي تحصل على الكربون من خلال أكل العوالق الحيوانية، التي تتغذّى بدورها على كائنات حية صغيرة تحمل اسم العوالق النباتية، التي تمتصُّ ثنائي أوكسيد الكربون من خلال عملية التركيب الضوئي. تحمل هذه الأسماك الكربون إلى أعماق البحار حيث تتنفسّه أو تطرحه، وكلما ازداد عمق المنطقة التي يحدث فيها ذلك، تطول فترة احتجاز الكربون فيها. تحوُّل ثنائي أوكسيد الكربون من غاز سطحي إلى كربون أعماق المحيطات هو جزء من آلية تحمل اسم مضخة الكربون البيولوجية، وهي الآلية التي تسهم في قدرة المحيطات على امتصاص 25% من إجمالي انبعاثات الكربون العالمية.

فهم الدور الذي تؤديه أسماك المنطقة المتوسطة العمق في هذه الدورة، التي لم تُدرس بما يكفي حتى وقتٍ قريب، معقّد لأسباب أهمّها أن تحديد عدد الأسماك الموجودة بالفعل في هذه المنطقة صعب.

صعوبة تقدير الكتلة الحيوية في الأعماق المتوسطة

يحاول المتخصص في علم المحيطات البيولوجي في معهد علم المحيطات والتغيّر العالمي في جزر الكناري قبالة سواحل إسبانيا، سانتياغو هيرنانديز-ليون، حل هذه المشكلة منذ عقود. شارك هيرنانديز-ليون عام 2010 في رحلة بحثية قادتها إسبانيا تحمل اسم بعثة مالاسبينا للطواف.

رصد الباحثون المنطقة المتوسطة العمق باستخدام مجسّات الصدى وغطّوا مسافة تبلغ 60 ألف كيلومتر تقريباً في رحلتهم. حتى تلك اللحظة، توصّل العلماء إلى أغلبية تقديرات عدد أسماك المنطقة المتوسطة العمق، التي قاسوها على أنها كتلة حيوية، باستخدام الشباك، وأشارت هذه التقديرات إلى أن هذا النظام البيئي يتمتّع بكثافة سكانية منخفضة. لكن الأرصاد الصوتية التي أجراها باحثو بعثة مالاسبينا كشفت أن هذه التقديرات نتجت عن حساب خاطئ للغاية؛ إذ إن الكتلة الحيوية لأسماك المنطقة المتوسطة العمق لا تبلغ مليار طن كما كان يُعتقد سابقاً، بل تبلغ 10 مليارات طن أو أكثر، ما يعني أنها تمثّل نحو 90% من إجمالي الكتلة الحيوية للأسماك في المحيط.

مع ذلك، يمثّل إثبات دقة هذه التقديرات أو تعظيم دقّتها تحدّياً كبيراً؛ إذ إنه على الرغم من أن الشباك تبقى أداة مهمة للتقدير، فإن العديد من أسماك المنطقة المتوسطة العمق متكيّف على نحو مثالي تقريباً لتفاديها.

تُطلق العوالق التي تعيش في المياه ومضات متألّقة بيولوجياً عند تلامسها بالشباك، ويتمتّع العديد من أسماك المنطقة المتوسطة العمق بعيون كبيرة تساعد هذه الأسماك على رؤية التألق البيولوجي من مسافات تصل إلى 20 متراً. بالنتيجة، تضيء الشباك التي يرميها الباحثون مثل أشجار عيد الميلاد في المياه، ما يدفع أغلبية الأسماك إلى تجنّبها ببساطة. يقول هيرنانديز-ليون: “نحن بحاجة إلى تحديد الكتلة الحيوية السمكية لتقدير معدّل الكربون الذي تنقله الأسماك. ولن نتمكن من تحديد القيمة الدقيقة إن لم نتمكن إلا من [التقاط] أقل من 20% من هذه الحيوانات”.

اقرأ أيضاً: لماذا تأكل الأسماك النفايات البلاستيكية؟

أساليب مختلفة لتقدير الكتلة الحيوية

طوّر هيرنانديز-ليون وفريقه كاميرات الفيديو التي يمكن إيصالها إلى أعماق تصل إلى 6 كيلومترات لمعالجة هذه المشكلة. اختبر الباحثون لحل مشكلة العوالق طريقة تُثبّت وفقها الكاميرات على عمق يبلغ 170 متراً بهدف تحديد إن كانت الأسماك ستمر أمامها، ولاحظوا أن ذلك حدث بالفعل. قورنت البيانات التي جمعها هؤلاء بالبيانات من تجربة مجسات الصدى للتأكد أن الأسماك المصورة تشارك في الهجرة العمودية.

يقول هيرنانديز-ليون: “قدّرنا الكتلة الحيوية ولاحظنا أنها كانت مرتفعة للغاية؛ إذ إنها بلغت عشرة أضعاف من تلك التي قدّرها الباحثون باستخدام الشباك”. يختبر هيرنانديز-ليون وغيره من الباحثين أيضاً استخدام المجسات الصوتية التي تصدر إشارات بترددات محددة بهدف التمييز بين الكائنات الحية المختلفة ضمن جماعات المنطقة المتوسطة العمق بدقة أكبر.

على الرغم من أن المشكلة الأكبر هي تحديد عدد الأسماك في هذه المنطقة، فإنها ليست الوحيدة.

تقول طالبة الدكتوراة في جامعة واشنطن والطالبة الزائرة في معهد وودز هول لعلم المحيطات، هيلينا ماكموناغل: “يجب أخذ نحو 30 متغيراً مختلفاً في الاعتبار عند حساب كمية الكربون التي تنقلها سمكة واحدة يومياً من سطح البحر إلى المنطقة المتوسطة العمق”. تتعلّق كمية الكربون التي تنقلها الأسماك إلى أعماق المحيط بالعديد من المتغيرات، من كمية الأوكسجين وثنائي أوكسيد الكربون التي تستهلكها في عملية التنفس إلى نسبة البراز الذي يغرق وصولاً إلى المنطقة المتوسطة العمق.

أطلق معهد وودز هول لعلم المحيطات مبادرة واسعة تحمل اسم مشروع منطقة الشفق المحيطية عام 2018، وهدفت هذه المبادرة للتوصّل إلى فهم أعمق للمنطقة المتوسطة العمق. حاولت ماكموناغل في الجزء الذي كانت مسؤولة عنه في المشروع كشف العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى خفض دقة التنبؤات حول عملية نقل الكربون التي تؤديها الأسماك. وتشير أبحاثها إلى أن معدلات تنفس الأسماك، التي تؤثّر في كمية الكربون التي تنقلها هذه الحيوانات من سطح البحر إلى أعماق المحيط في أثناء تنفسها طوال اليوم، لها تأثير بليغ. يمكن أن تتغير هذه المعدلات بمقدار كبير اعتماداً على طريقة حسابها.

تقول ماكموناغل: “تولّد عوامل عدم اليقين هذه في المتغيّرات تبايناً يبلغ 6 أضعاف بين أصغر قيمة وأكبر قيمة للسمكة الواحدة”.

تطوير أدوات جمع البيانات عن الأسماك بالاستفادة من رصد هجرتها العمودية

حققت ماكموناغل بعض النجاحات في جمع القياسات التي أجريت على متن سفينة في رحلة بحثية في شمال المحيط الأطلسي؛ إذ إنها قاست معدلات تنفس الأسماك الفانوسية التي التُقطت حديثاً قبل قتلها قتلاً رحيماً، ولكن عملية جمع البيانات لا تزال صعبة؛ إذ إن الأسماك ذات الأجسام الرخوة التي اعتادت على قضاء حياتها في أعماق تصل إلى كيلومتر واحد تحت السطح تموت في الكثير من الأحيان عند انتشالها من الماء ونقلها إلى المختبر. تقول ماكموناغل: “هذه الأسماك ضعيفة للغاية”.

مع ذلك، يمكن أن تساعد الأبحاث المختبرية التي أجريت على الأنواع الأخرى على الحصول على المعلومات المفقودة، خاصة عندما يدرس الباحثون ما تطرحه الأسماك وليس ما تستهلكه فقط.

أصبحت لورين كوك مهتمة بالمنطقة المتوسطة العمق بسبب استخدام مجسات الصدى، كما حدث مع علماء السونار في أربعينيات القرن الماضي. تمكّنت كوك بينما كانت تكمل فترة التدريب الصيفي الجامعي من الحصول على بيانات أدق جمعتها سفينة أجرت رحلات بحثية بين ولاية نيو جيرسي ومنطقة برمودا. تتبعت كوك، وهي مرشحة لنيل درجة الدكتوراة في جامعة راتغرز، أنماط هجرات الكائنات البحرية من خلال رسم بيانات التبعثر الخلفي.

اقرأ أيضاً: أكبر سمكة تعيش في حوض أسماك في العالم قد يتجاوز عمرها 100 عام

وأثارت هذه التجربة لديها أسئلة حول الآلية الدقيقة التي تنقل وفقها الأسماك الكربون إلى أعماق المحيط. ولكنها ركّزت في أثناء دراستها لنيل شهادة الدكتوراة على نوعٍ تُعدُّ دراسته أسهل، وهو سمك المنهيدن الأطلسي، وهو سمك علفي يزن نحو 450 غراماً عادة ويصيده البشر بكثافة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية.

تبقى هذه الأسماك، التي تُعدُّ من الأسماك السطحية الساحلية، في المياه السطحية ولا تسبح إلى الأعماق التي تعيش فيها أسماك المنطقة المتوسطة العمق. ولكن برازها يتنقل إلى أعماق سحيقة للغاية، مثل براز أسماك المنطقة المتوسطة العمق، ما يمنحها القدرة على الإسهام في آلية مضخة الكربون البيولوجية.

مع ذلك، لا يمكن رصد هذه العملية في المحيط بسهولة.

رصد الآلية التي تسهم فيها الأسماك في احتجاز الكربون

تقول كوك: “العثور على براز الأسماك صعب للغاية؛ إذ إنه كبير الحجم ويغرق بسرعة. بالإضافة إلى ذلك، تحديد مصدر البراز مستحيل عملياً، وكذلك قياس المتغيرات جميعها في الميدان”.

بدلاً من ذلك، وطّنت كوك أسماك المنهيدن البالغة التي صادها الصيادون المحليون في أماكن خاصة في المختبرات، وقدّمت لها وجبات دسمة ثم رصدت نتائج ذلك. (تبيّن من أحد القياسات أن طول براز هذه الأسماك يبلغ 4 مليمترات، أي نحو قطر حبة عدس أخصر واحدة). تُستخدم هذه العينات لتقدير معدّل كلٍّ من إطراح حبيبات البراز وغرقها، وهذا الأخير عامل مهم لأن معدل الغرق العالي لبراز الأسماك، مقارنة بمعدل الغرق الأخفض لبراز الكائنات الحية الأخرى مثل العوالق الحيوانية، هو الذي يجعل براز المنهيدن وسيلة قد تكون فعّالة في نقل الكربون.

وفقاً لكوك، تشير التقديرات المعتمدة على القياسات المحدودة التي أجراها العلماء إلى أن فضلات الأسماك تغوص مسافات تتراوح بين مئات الأمتار ونحو كيلومتر واحد يومياً، “بينما قد تقطع الفضلات الأخرى الأصغر حجماً مسافات تتراوح بين متر واحد و10 أمتار يومياً”. يعني ذلك أن الكربون الموجود في فضلات الأسماك لن يُعاد تدويره مجدداً في المياه في أثناء رحلته إلى الأعماق على الأرجح، وأنه من المرجح أن يصل إلى رواسب قاع المحيط حيث يمكن عزله عدة قرون.

تصمّم كوك نموذجاً لتقدير كمية الكربون الإجمالية التي تنقلها جماعات أسماك المنهيدن إلى مياه البحار العميقة أو رواسب القاع باستخدام هذه المعلومات وغيرها من المتغيّرات، مثل الزيادات غير المقدّرة بدقة في درجات حرارة المياه الناجمة عن التغير المناخي. (يؤثّر ارتفاع درجة حرارة المياه في استقلاب الأسماك، ما قد يغيّر كمية الكربون التي ينقلها البراز إلى الأعماق).

اقرأ أيضاً: كيف تتكيف أسماك المهرج مع بيئتها عبر التعديل الجيني؟

من المحتمل أن أسماك المنطقة المتوسطة العمق تطرح برازها في نقاط أعمق من عمود المياه وأبعد عن الشاطئ، حيث يكون عمق المحيط أكبر بكثير. يعني ذلك أنه سيزداد احتمال وصول البراز إلى منطقة ما في أعماق المحيط حيث يُخزّن الكربون على المدى الطويل. مع ذلك، نقل الأنواع التي تعيش في المنطقة المتوسطة العمق إلى المختبرات لدراسة ذلك بتفصيل أكبر، كما تفعل كوك مع أسماك المنهيدن، لا يزال صعباً.

تقول الأستاذة المشاركة في جامعة راتغرز (ومستشارة الدكتوراة لكوك) ورئيسة مجموعة عمل دولية معنية بالكربون السمكي، غريس سابا، إن تشريح أسماك المنطقة المتوسطة العمق الميتة بهدف فحص المواد البرازية في أمعائها يمكن أن يوفّر رؤى حول وزن براز هذه الأسماك ونسبة الكربون فيه، ولكن لا تزال مدة عملية الهضم لدى هذه الأسماك، وبالتالي إن كانت تطرح البراز في الأعماق أو في مناطق أقرب إلى السطح حيث تتغذّى، غير معروفة. تقول سابا: “يؤثّر ذلك كثيراً في كمية الكربون التي تنقلها هذه الأسماك إلى الأعماق والكمية التي تبقى في الأعماق”.

مخازن كربون مديدة

في المجمل، هذه العملية معقّدة ولا يزال فهم العلماء لها محدوداً؛ إذ يقدّر بعضهم أن آلية مضخة الكربون البيولوجية تؤدي إلى نقل نحو 10 مليارات طن من الكربون من سطح المحيط إلى المياه العميقة سنوياً، بينما يشير بعض الدراسات إلى أن النسبة التي تنقلها أسماك المنطقة المتوسطة العمق تتراوح بين 0.3 و40%. (وفقاً للوكالة الدولية للطاقة، وللمقارنة، تسبّب قطاع النقل العالمي بانبعاث نحو 8 مليارات طن من الغازات الدفيئة عام 2022). مع ذلك، لا تبقى كمية الكربون كلها التي تنتقل إلى المياه العميقة أو إلى الرواسب هناك على المدى الطويل.

وتشير التقديرات الحديثة إلى أن إجمالي كمية الكربون المعزولة يبلغ نحو 1.2 تريليون طن، ووفقاً لأحد النماذج، تبلغ نسبة الكربون التي تنقلها أسماك المنطقة المتوسطة العمق 20% من هذه الكمية. (في المقابل، تخزّن المواد العضوية الموجودة في المتر العلوي من التربة على مستوى العالم نحو 1.5 تريليونات طن من الكربون).

هناك تغييرات تطرأ على العالم وتترافق مع بدء تركيز العلماء على منطقة الشفق وإسهام الأسماك في عزل الكربون.

جذبت الأنواع التي تعيش في المنطقة المتوسطة العمق الاهتمام على مدى العقدين الماضيين بصفتها مصدراً غذائياً في عالم يزداد فيه الطلب على الطعام. ودفع ذلك بعض الجهات إلى إطلاق مشروعات مثل مشروع ميسو (MEESO، أو Ecologically and economically sustainable mesopelagic fisheries) الذي يموّله الاتحاد الأوروبي، الذي يهدف إلى التوصّل إلى فهم أفضل لوفرة الأنواع الرئيسية التي تعيش في المنطقة المتوسطة العمق وتكنولوجيات صيدها، ومن المقرر أن ينتهي عام 2024. أنشأت النرويج مسمكة تجريبية مخصصة لأسماك المنطقة المتوسطة العمق منذ عام 2016، واختبرت آيسلندا أيضاً إنشاء مصايد لأسماك المنطقة المتوسطة العمق، وخاصة في عامي 2009 و2010.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تدرس فيها الدول المنطقة المتوسطة العمق؛ إذ لجأ خبراء الاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين للكائنات البحرية لحل مشكلة توفير البروتين للسكان الذين كانت أعدادهم آخذة في الازدياد.

يقول المؤلّف المشارك لورقة بحثية حول مصايد أسماك المنطقة المتوسطة العمق السوفيتية نُشرت بالتعاون مع مشروع منطقة الشفق التابع لمعهد وودز هول لعلم المحيطات، سليتر باين: “شهدت البلاد ازدياداً هائلاً في كمية الأموال التي حُوّلت إلى وزارة الثروة السمكية، ما أدّى إلى استنزاف المخزون السمكي في المياه القريبة من روسيا”.

في سبعينيات القرن العشرين، دفع التنافس المتزايد على موارد المصايد، فضلاً عن تشديد القوانين الدولية، الاتحاد السوفيتي إلى إنشاء مصايد مخصصة لأسماك لا منافسة عليها، وهي الأسماك الفانوسية التي تعيش في المنطقة المتوسطة العمق. ووفقاً لباين، كان الهدف هو استخدام هذه الأسماك التي لم تُستهدف من قبل على أنها علف للماشية.

تطلّبت الاستفادة من موارد المنطقة المتوسطة العمق جهوداً ضخمة في مجال صيد الأسماك في جنوب غرب المحيط الهندي وجنوب المحيط الأطلسي، وتضمن ذلك استخدام القوارب مع الطائرات المروحية وبناء منشآت لمعالجة الأسماك لدعم أسطول من سفن الصيد الصغيرة.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال أشكال الدعم الحكومية لإنشاء المسامك، تراجع الاهتمام بهذه المسامك أيضاً.

لكن بعد 40 عاماً، ازداد الاهتمام بصيد أسماك المنطقة المتوسطة العمق مجدداً، خاصة في دول شمال أوروبا، بعد أن توصّلت بعثة مالاسبينا للطواف إلى تقدير مُدقّق للكتلة الحيوية في هذه المنطقة في عام 2010. هذا الاهتمام هو الذي أدّى إلى إطلاق المبادرات مثل مشروع ميسو، الذي يحاول الخبراء فيه كشف التبعات الاقتصادية والبيولوجية لإنشاء مسامك أسماك المنطقة المتوسطة العمق.

اقرأ أيضاً: تعرف على أكبر كائنات الأرض: الحوت الأزرق ملك البحار

أرباح ومصادر تجارية

تشير دراسات الباحث في معهد نوفيما، وهو معهد أبحاث نرويجي منخرط في مشروع ميسو، رونار يارب سولستا، إلى أن تحوّل أسماك المنطقة المتوسطة العمق إلى غذاء أساسي غير مرجّح. ركّزت أبحاث سولتا على تقييم إمكانية استخدام نوع مستهدف من أسماك هذه المنطقة على أنه مصدر غذائي، وهو مورولوكوس ميولوري (Mueller’s pearlside). وبيّنت النتائج أن هذه الإمكانية منخفضة بالنظر إلى تفضيلات البشر المتعلقة بالطعام.

يقول سولستا: “طعم هذا السمك سيئ للغاية، ولا توجد طريقة أخرى لوصفه”.

مع ذلك، كما كان الحال مع مسامك أسماك المنطقة المتوسطة العمق السابقة في الاتحاد السوفيتي، ينصبّ الكثير من الاهتمام على استخدام أسماك هذه المنطقة على أنها مصدر غذاء لحيوانات أخرى، مثل سمك السلمون الأطلسي. يقول بعض العلماء والصيادين إن الاستفادة من مورد أسماك المنطقة المتوسطة العمق مرجّح في النهاية، وذلك لأنه من المتوقع أن الطلب على المأكولات البحرية سيتضاعف بحلول عام 2050. مع ذلك، قد يؤدي صيد هذه الأسماك إلى عواقب غير مقصودة.

يمكن أن نستنتج من الوضع الحالي للمسامك التجارية كم يمكن أن تكون هذه العواقب وخيمة. قدّر العلماء في دراسة نُشرت في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances) عام 2020 أن البشر منعوا بفاعلية عزل 22 مليون طن من الكربون من خلال صيد الأسماك التي كانت ستتبرز وتموت إن لم يصيدوها (وهي طريقة أخرى تؤدي إلى وصول الكربون إلى أعماق المحيط).

بخلاف الصيد، التغيّر الأكبر في المنطقة المتوسطة العمق قد يكون نتيجة للتغيّر المناخي.

كانت درجات الحرارة في الأرض تتقلب بمقدار 4 درجات مئوية تقريباً بين الفترات الجليدية والفترات الأكثر اعتدالاً قبل نحو 1.5 ملايين سنة. تشير أبحاث عالمة الحفريات وباحثة ما بعد الدكتوراة في جامعة فيينا في النمسا، كونستانتينا أجيادي، إلى أن هذا التقلّب السريع في أوائل العصر البليستوسيني الأوسط (الذي يعد سريعاً على النطاق الزمني الجيولوجي على الأقل) أثّر كثيراً في منطقة الشفق.

اكتشفت أجيادي من خلال دراسة الحصوات الأذنية المتحجرة للأسماك الفانوسية التي تعود لهذا العصر أن متوسط حجم أجسام أسماك المنطقة المتوسطة العمق انخفض بنسبة 35% مع ارتفاع درجة الحرارة. (يسرّع الماء الساخن عملية الاستقلاب لدى الأسماك، ما يؤدي إلى بلوغها وتوقّف نموها عندما تكون أحجامها أصغر). وتقول أجيادي إنه من المحتمل أن ذلك أثّر في آلية مضخة الكربون البيولوجية؛ إذ إن الأسماك الأصغر حجماً تنتقل عبر مسافات أقصر، ما يؤدي إلى نقل كمية أقل من الكربون إلى أعماق المحيط.

على الرغم من أن هذه الحقبة شهدت زيادات أكبر في درجات الحرارة مقارنة بالسيناريوهات المناخية جميعها باستثناء أسوأ السيناريوهات المحتملة لفترة التغيّر المناخي الناجم عن النشاطات البشرية الحالية، تقول أجيادي إن ما تعلّمه العلماء من دراسة العصور القديمة يبيّن أن هناك حاجة إلى التوصّل إلى فهم أعمق للمنطقة المتوسطة العمق وعلاقتها بالعالم المتغير المحيط بها.

وتُضيف قائلة: “استفاد [البشر] منذ زمن طويل من الموارد التي لا يفهمونها. وهناك إمكانية الآن لتجنّب العواقب الخطيرة قبل وقوعها ودعم الأبحاث المكثّفة في هذا المجال”.

اقرأ أيضاً: دببة غرينلاند القطبية تتعلم التكيف مع تراجع الجليد

تقع أغلبية مواطن المنطقة المتوسطة العمق في المحيط المفتوح خارج حدود أي دولة. أشارت طالبة الدكتوراة في جامعة فاخيننغن والأبحاث في هولندا، أماندا شاديبرغ، إلى أن المعلومات التي يوفّرها العلماء حول عدد الأسماك في المنطقة المتوسطة العمق وكمية الكربون التي تعزلها يمكن أن يؤثّر كثيراً في السياسات العالمية التي تخص المناطق التي لا تخضع للولاية الوطنية أو التي لا يستخدمها البشر تقليدياً.

تتضمن هذه المعلومات تلك التي تتعلق بكيفية تحقيق التوازن بين الأمن الغذائي الذي يمكن تعزيزه من خلال صيد أسماك المنطقة المتوسطة العمق والحاجة إلى التخفيف من آثار التغيّر المناخي ودور الأسماك في النظام البيئي، أو كيفية تحديد قيمة بالدولار لإمكانات هذه الأسماك في عزل الكربون. (مع ذلك، يزيد غياب الولاية الوطنية أيضاً خطر وقوع العواقب غير المقصودة الناجمة عن الأنشطة مثل صيد الأسماك).

تشير النتائج الأولية للأبحاث حول المنطقة المتوسطة العمق إلى أن هذه الأسئلة العامة طُرحت بالفعل؛ إذ تقول سابا إن الكثير من العلماء الذين زاد اهتمامهم سريعاً بآليات نقل الكربون التي تسهم فيها الأسماك على مدى العامين الماضيين ركّز على تقييم إمكانات الأسماك بصفتها جزءاً من حل مناخي على غرار حلول الكربون الأزرق.

يقول بعض العلماء إن الاهتمام بالمنطقة المتوسطة العمق قد يشتت الانتباه عن قضايا أهم، مثل الحاجة إلى خفض الانبعاثات الحالية التي تؤدي بالفعل إلى إطلاق كمية كبيرة من ثنائي أوكسيد الكربون في المحيط. بالإضافة إلى ذلك، تقول شاديبرغ إن هذا الاهتمام قد يحرف الأولويات بطريقة مختلفة؛ إذ إن الأبحاث حول المنطقة المتوسطة العمق مكلفة للغاية، ويجري أغلبيتها العلماء في البلدان الثرية، ما يعني أن هناك عدداً قليلاً من الأشخاص الذي يستطيعون التأثير بالقرارات التي تؤثّر في الكوكب بأكمله.

مع ذلك، قد تعلّمنا دراسة المنطقة المتوسطة العمق أيضاً عن أهمية التواضع. اعتقد العلماء منذ وقت ليس ببعيد أن هذه المنطقة خالية نسبياً من الحياة. وأظهرت لهم دراسة هذا الجزء من المحيط بدقة أكبر مدى خطأ هذا الاعتقاد. من دون علمنا، قد تساعد الأسماك الصغيرة التي تقطع مسافات طويلة على الحفاظ على قابلية كوكبنا لإيواء الحياة. وأقل ما يمكننا فعله لرد الجميل هو الاعتراف بأننا نجهل الكثير حتى الآن.