ماذا يمكن أن تعلمنا الطيور المغرّدة عن الذكاء؟

ماذا يمكن أن تعلمنا الطيور المغرّدة عن الذكاء؟
صورة لطير مغرّد يحمل اسم الطائر القصير المنقار يعيش في جنوب غابات الولايات المتحدة الشمالية. ميلاني كوتور
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما معنى الذكاء؟ إذا كان متوقفاً على التمتّع بأكبر دماغ، فستكون حيتان العنبر التي تزن أدمغتها نحو 9 كيلوغرامات الحيوانات الأذكى على الأرض. ولكن على الأرجح، يتعلّق الذكاء بالتشبيك العصبي في الدماغ. من هذا المنظور، الذكاء هو ما يمنح الكائن الحي الفرصة الأفضل للبقاء في بيئة ما والازدهار فيها. قد تكون اللغة واحدة من أفضل الطرق لإظهار هذا النوع من الذكاء.

وعلى الرغم من أن الحيوانات جميعها تستطيع التواصل بعضها مع بعض، فإن البشر هم من الأنواع القليلة التي تتحدّث بلغة منطوقة. يستطيع البشر مشاركة الأفكار المعقدة ونقل المعارف عبر الأجيال وإنشاء المجتمعات باستخدام الكلام. مع ذلك، لم يُختبَر إذا ما كانت اللغة المنطوقة ساعدت النوع البشري بالفعل على التطور ليصبح نوعاً أكثر تقدماً.

اقرأ أيضاً: هل يبلغ ذكاء الدببة درجة تمكنها من التقاط صور السيلفي؟

اللغة ليست أكبر الأدلة على الذكاء

يقول الأستاذ في جامعة روكفلر، إريك جارفِس، الذي يدرس الأسس الحيوية العصبية للتعلّم الصوتي: “الادعاء الذي ينص على أن اللغة أتاحت للبشر أن يصبحوا كائنات أكثر تقدماً هو افتراض توصل إليه شخص ما في يوم من الأيام دون أن يحاول [إثباته]”. يشير جارفس إلى أن هذه الفكرة ظلت موجودة، ولكن كذلك الحال بالنسبة للمعتقدات الشائعة الأخرى التي لا تدعمها الأدلة، مثل الفكرة الخاطئة التي تنص على أن البشر لا يستخدمون سوى 10% فقط من أدمغتهم دائماً.

لكن تمكّن جارفس وزملاؤه من اختبار هذه الفرضية بمساعدة الطيور المغردّة. تقدّم الدراسة التي ألّفها هؤلاء، التي نُشرت بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول 2023 في مجلة ساينس (Science)، بعضاً من الأدلة الأولى التي تبيّن أن التعلم الصوتي، وهو أحد العناصر البالغة الأهمية في اللغة المنطوقة، يرتبط بالقدرة على حل المشكلات. التعلّم الصوتي هو القدرة على إصدار أصوات جديدة من خلال تقليد الآخرين، وهو يعتمد على الخبرة بدلاً من الغريزة. وجد فريق الباحثين أن الطيور التي تتمتّع بالقدرة على التعلّم الصوتي والتي تمكّنت من حل المشكلات تتمتّع بأدمغة أكبر حجماً.

اقرأ أيضاً: طائر القيق يظهر أداءً معرفياً عالياً في اختبار مارشميلو الشهير

دور التعلم الصوتي في القدرة على المحاكمة

يقول أستاذ علم النفس في جامعة كورنيل، مايكل غولدستين، الذي يدرس التعلّم الصوتي لدى الطيور المغرّدة والبشر ولم يشارك في الدراسة الجديدة: “يساعد تعلّم سلاسل جديدة من الأصوات على التواصل بنجاح مع الآخرين، ويكون مفيداً غالباً عندما يقابل الأفراد أفراداً من النوع نفسه لم يقابلوهم من قبل”. التعلم الصوتي أكثر بروزاً عند الأطفال الرضع الذين يتعلمون في السنة الأولى من حياتهم تفكيك الكلام المستمر الذي يسمعونه من البالغين إلى وحدات صوتية فردية. ويقول غولدستين إنه بمرور الزمن، يساعد تقليد الأصوات الرضّع على تركيب الكلمات ويمكّنهم من تركيب الجمل في النهاية.

لجأ مؤلفو الدراسة إلى دراسة الطيور المغرّدة لفهم التعلم الصوتي والإدراك بعمق أكبر. تمتلك أغلبية الأنواع في هذه الرتبة الفرعية من الطيور القدرة على التعلم الصوتي. وهي تزدهر في قارات العالم جميعها باستثناء القارة القطبية الجنوبية. يقول جارفس: “تمثّل الطيور المغردة نصف أنواع الطيور في العالم. ويبدو أن الانتواع والتنوّع ازدادا بمجرد تطوّر القدرة على التعلم الصوتي”.

أجرى الفريق 7 تجارب إدراكية على 214 طائراً مغرداً من 23 نوعاً مختلفاً. التُقط 21 نوعاً من هذه الطيور من المناطق البرية في ولاية نيويورك الأميركية. كان نوعان من الطيور المدروسة، وهما الشرشور المخطط والكناري، من الأنواع المستأنسة. فحصت الاختبارات السلوكية التي أجريت في الدراسة قدرة الطيور على حل المشكلات. على سبيل المثال، من خلال اكتشاف طريقة لإزالة عائق ما للحصول على مكافأة من الطعام.

قيّم الباحثون أيضاً مهارتين أخريين ترتبطان غالباً بالذكاء، وهما التعلم الارتباطي، والتعلّم العكسي الذي يتجلّى في قدرة الحيوان على تعديل سلوكه للحصول على مكافأة. بعد ذلك، نظر الباحثون فيما إذا كان امتلاك القدرة على التعلّم الصوتي يساعد الطيور على اكتساب القدرة على حل المشكلات والتعلّم الارتباطي والتعلّم العكسي، وقارنوا 21 نوعاً من الطيور بنوعين آخرين لا يتمتّعان بالقدرة على التعلّم الصوتي (تستطيع هذه الطيور تعلّم الأصوات فقط خلال فترة نمو قصيرة).

اقرأ أيضاً: هكذا تطورت الحيوانات البرية لتصبح أذكى من أسلافهم المائية

لاحظ علماء الأحياء وجود علاقة وثيقة بين التعلم الصوتي ومهارات حل المشكلات. استطاعت أنواع الطيور التي تتمتّع بالقدرة على التعلم الصوتي أن تتوصل إلى أفكار مبتكرة، مثل الحصول على بذرة أو دودة محصورة تحت كوب من خلال إزالة العائق أو ثقبه أو تفكيكه. يقول عالم البيئة واختصاصي علم الأحياء العصبي في جامعة روكفلر والمؤلّف الرئيسي للدراسة الجديدة، جان نيكولا أوديه: “ارتباط هاتين المهارتين، وليس السمات الأخرى التي اختبرناها، بالذكاء كان مفاجئاً”. ويضيف قائلاً إن القدرات الثلاث، حل المشكلات والتعلّم الارتباطي والتعلّم العكسي، تعد من “سمات الذكاء” عادة.

لا يعني ذلك أن نوعي الطيور اللذين لا يتمتّعان بالقدرة على التعلم الصوتي غبيّان، بل إنه يبيّن أنهما لم يكتسبا هذا النوع المحدّد من الذكاء. يقول أوديه: “علينا أن نكون حذرين ودقيقين جداً عندما نقيّم الذكاء، وذلك لأنه يعتمد على السمات التي ندرسها”.

علاقة الذكاء بالسمات المدروسة

كان حجم الدماغ سمة مفيدة في القدرة على التعلم الصوتي، ومن المحتمل أنه عزز قدرة الطيور على حل المشكلات. تمتّع أفراد الأنواع الـ 21 التي تمتلك القدرة على التعلم الصوتي بأدمغة أكبر قليلاً قياساً بأحجام أجسامها مقارنة بالنوعين غير القادرين على التعلم الصوتي. ويقول جارفس إنه من المحتمل أن هذه الأدمغة الأكبر تحتوي على عدد أكبر من العصبونات. كما أنه من المحتمل أيضاً أن هذه الطيور اكتسبت جماجم أكبر، ما تسبب بتشكّل دارات عصبية إضافية مسؤولة عن مهارات التعلّم الصوتي وحل المشكلات الأكثر تقدّماً. يقول جارفس: “يوحي لي ذلك بأن القدرة على حل المشكلات مميزة بطريقة ما؛ إذ إنها جعلت بعض الأنواع أكثر تقدماً، كما تفعل اللغة المحكية”.

اقرأ أيضاً: ما هي أذكى الحيوانات في العالم وكيف عرفنا مستوى ذكائها؟

إحدى المسائل التي لم يتمكّن الباحثون من تفسيرها هي العلاقة الوثيقة بين القدرة على حل المشكلات والتعلم الصوتي. يقول أوديه إن مناطق الدماغ المسؤولة عن التعلم الصوتي ليست المناطق نفسها التي تنشط عندما نحاول حل مشكلة ما. ويخطط الفريق الآن لإلقاء نظرة أعمق على أدمغة الطيور المغردة وتحديد الجينات أو مناطق الدماغ الأخرى التي تربط هاتين المنطقتين. من المحتمل أن هناك رابطاً ما غير مكتشف بعد يساعد على اكتساب هذا النوع من الذكاء.