دراسة جديدة توضّح سبب التنوع الهائل بين أنواع الثعابين

5 دقيقة
دراسة جديدة توضّح سبب التنوع الهائل بين أنواع الثعابين
أفعى الرموش من المناطق الاستوائية في العالم الجديد. أليخاندرو أرتيجا، مؤسسة خاماي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من الناحية التجريدية، الثعابين هي من السحالي فنياً، ولكن من ناحية الدلالة اللفظية ولأن هذه الحيوانات مميزة للغاية، يصنّف علماء البيولوجيا الثعابين والسحالي في فئتين مختلفتين. على الرغم من أن فرع الثعابين يوجد في فرع الزواحف الحيوي في شجرة الحياة، فإن هذه الحيوانات التي منها الطويل والزاحف والعديم الأرجل والقادر على نزع فكه من موقعه وتسديد لدغات سامة، تعد مميزة عن الزواحف الأخرى. يسلط بحث جديد الضوء على مدى تفرد الثعابين، ويؤكد لغزاً قائماً من أمد طويل.

اقرأ أيضاً: هل تستطيع الحيوانات تحذيرنا من الكوارث الطبيعية الوشيكة مثل الزلازل والبراكين؟

تفرّد الثعابين

هناك نحو 4 آلاف نوع معروف من الثعابين الحية حالياً، وتمثّل هذه الحيوانات نسبة ثُمن الفقاريات التي تعيش على الأرض. تزدهر الثعابين في مجموعة مذهلة التنوع من المواطن المختلفة وفي ظل ظروف متفاوتة للغاية؛ إذ إنها تتسلق الأشجار وتعيش في الجحور والماء ومنها أيضاً التي تحوم في الهواء. وفقاً للدراسة الجديدة التي نُشرت بتاريخ 22 فبراير/شباط 2024 في مجلة ساينس (Science)، لا توجد سمة واحدة يمكن أن تفسر هذا التنوع.

“الثعابين مميزة وغريبة”.

بدلاً من ذلك، يُرجع الباحثون هذا التنوع إلى ظاهرة يطلقون عليها اسم “تفرّد الثعابين”. بتعبير عام، التفرّد هو ظاهرة تحدث عندما تؤدي التغيّرات الصغيرة التي لا يمكن التنبؤ بها إلى نتائج بليغة التأثير وغير متوقعة. في الفيزياء، التفرّد هو نقطة في الفضاء تنهار عندها قوانين الفيزياء ويمكن أن يحدث فيها توسع سريع في نسيج الزمكان. تنص نظرية الانفجار العظيم على أن الكون بأكمله نشأ من مثل هذا التفرّد. أما في البيولوجيا، فقد يحدث التفرد عندما ينشأ انفجار في الأنواع بسبب سلسلة من التغييرات القريبة زمنياً بعضها من بعض لدرجة أنها تبدو لحظية وغير منفصلة في التسلسل الزمني التطوري.

وفقاً للدراسة الجديدة، نشأت أنواع الثعابين العديدة جميعها من حدث تفرّد بيولوجي.

ثعبان الحُفر ذو الرموش في إحدى مناطق العالم الجديد الاستوائية. يتغذى هذا النوع على الفقاريات الصغيرة، مثل الضفادع والسحالي والخفافيش والطيور. حقوق الصورة: تريستان سكرامر، جامعة ميشيغان

التفكير في التطور من وجهة نظر أحداث التفرد هو تحول في المنظور في مجال يعتقد فيه العلماء أن العمليات تتطور تدريجياً وببطء عادة. يعتقد العلماء أن نشوء الأنواع الجديدة يحدث عادة في الجزر بسبب الانفصال الجغرافي أو ينتج عن التفاعلات الطويلة الأمد بين المفترسات والفرائس أو الضغط الناجم عن الأمراض مع مرور الوقت. ما تزال هذه الأحداث جميعها تقع وهي مهمة لفهم التطور، لكن وجود الثعابين (ومجموعات حيوانية متنوعة على نحو مشابه مثل القوارض والجواثم) يشير إلى أن القفزات الكبيرة والمفاجئة ربما أدت دوراً في نمو شجرة الحياة أيضاً. أحياناً، تتطور الحياة بسرعة.

اقرأ أيضاً: 5 أمثلة من الطبيعة لأغرب آليات الدفاع لدى الكائنات

انفجار الثعابين

يقول أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية في جامعة ميشيغان وكبير مؤلفي الدراسة، دانيال رابوسكي، إن البحث الجديد يبيّن أن الثعابين تتطور بطبيعتها بمعدل مرتفع للغاية. “تتطور السحالي بسرعة كبيرة لأنها تتغيّر بسرعة كبيرة، لكن الثعابين تتطور بسرعة أكبر من ذلك”. بسبب هذه السرعة، “اكتسبت الثعابين تنوعاً في الكثير من النواحي البيئية المختلفة، وهو تنوع يفوق تنوع العديد من مجموعات الحيوانات الأخرى”، بحسب تعبير رابوسكي. مع ذلك، فإن السبب الدقيق الذي مكّن الثعابين من التفوق على الزواحف الأخرى من الناحية التطورية ما يزال غير معروف. من المرجح أن التنوع الكبير للثعابين نتج عن العديد من التغييرات الموفَّقة التي حدثت في تتابع سريع. وفقاً لرابوسكي، من المستحيل تقريباً تحليل التأثير النسبي لإحدى السمات التي اكتسبتها الثعابين وتمييزه عن تأثير السمات الأخرى لأن تفرد الثعابين حدث مرة واحدة فقط، وهناك حتى الآن الكثير من المعلومات المجهولة. مع ذلك، توفّر الدراسة الجديدة رؤى ثاقبة مثيرة للاهتمام.

“تتطور السحالي بسرعة كبيرة لأنها تتغيّر بسرعة كبيرة، لكن الثعابين تتطور بسرعة أكبر من ذلك”.

أنشأ الباحثون واحدة من أكثر الأشجار التطورية تفصيلاً على الإطلاق للسحالي والثعابين (التي تُجمع معاً في فئة تحمل اسم “الحرشفيات”) باستخدام التسلسلات الجينية الجديدة لأكثر من ألف نوع وبيانات إضافية جُمعت سابقاً تعود لنحو 7 آلاف نوع من الزواحف. بيّنت خريطة تطور السلالات التي أنشأها هؤلاء أن الثعابين تتطور لتعيش في مكامن بيئية جديدة ولتكتسب أشكالاً جسدية جديدة بمعدل أسرع بثلاث مرات من الحرشفيات الأخرى، وأن أغلبية العمليات التطورية هذه حدثت خلال السبعين إلى المائة مليون سنة الماضية أو نحو ذلك.

ثعبان ورق العنب الأخضر (Oxybelis fulgidus) في البرازيل. يتغذى هذا النوع المعتدل السميّة على الضفادع والسحالي والطيور. حقوق الصورة: إيفان بريتس، جامعة ميشيغان

يقول رابوسكي إن هذا الازدياد السريع في عدد أنواع الثعابين ما يزال مستمراً، ويؤكد غياب أي إشارة تبين أن الازدياد سيتباطأ في أي وقت قريب، وأنه من المرجح وجود المزيد من أنواع الثعابين غير المكتشفة بعد. وبالفعل، يكتشف العلماء أنواعاً جديدة من الثعابين دائماً. على سبيل المثال، اكتشف علماء البيولوجيا في وقت سابق من شهر فبراير/شباط 2024 أن أكبر أنواع الثعابين المعروفة، وهو الأناكوندا الخضراء، ينقسم إلى نوعين مختلفين وراثياً.

فصل الثعابين عن السحالي

اكتسب العديد من مجموعات السحالي المختلفة عن الثعابين بعض السمات الشبيهة بسمات الثعابين على نحو مستقل. هناك السحالي العديمة الأرجل وتلك المستطيلة والسامة وذات الجماجم المتخصصة والفكوك البالغة المرونة، وهناك أيضاً أنواع من السحالي تستطيع أن تشم مثل الثعابين. مع ذلك، اكتشف مؤلفو الدراسة الجديدة أن معدلات تنوع مجموعات السحالي الأخرى هذه وتطورها لا تقترب حتى من نظيراتها لدى الثعابين. يقول أستاذ البيولوجيا التطورية المساعد وأستاذ علم البيئة في جامعة ستوني بروك والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، باسكال تايتل: “تتميز الثعابين بالعديد من السمات البارزة، لكن هذه السمات ليست حكراً عليها. وفي الوقت نفسه، لم نكتشف أي علاقة سببية متسقة بين ظهور أي سمة وظهور عدد كبير من أنواع الزواحف بعدها”، بحسب تعبيره.

حلل الباحثون الفرق بين النظام الغذائي للثعابين والسحالي استناداً إلى نحو 70 ألف رصد لمحتويات معِدات هذه الحيوانات. اكتشف هؤلاء أن الثعابين تتغذى أكثر على الفقاريات، أما السحالي فتميل إلى التغذّي على الحشرات واللافقاريات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، تُبين الدراسة أن الثعابين متخصصة أكثر في انتقاء مصادر الغذاء، في حين أن السحالي عمومية أكثر غالباً. مع ذلك، ما تزال الاختلافات الغذائية وحدها غير كافية لتفسير النجاح التطوري للثعابين.

الشيطان الشائك (Moloch horridus)، وهو نوع من السحالي يتمتع بقدرة كبيرة على التمويه ويعيش في الصحاري الرملية في أستراليا. يتغذّى هذا النوع على النمل على نحو حصري تقريباً. حقوق الصورة: دان رابوسكي، جامعة ميشيغان

يقول عالم البيولوجيا التطورية والحفريات في جامعة باث في المملكة المتحدة، نِك لونغرِتش، الذي بحث في موضوع تنوع الثعابين من قبل ولكنه لم يشارك في الدراسة الجديدة: “الثعابين مميزة وغريبة، وأعتقد أن مؤلفي الدراسة تمكّنوا من قياس ذلك بنجاح في الدراسة الجديدة”.

تتفق عالمة الزواحف والبرمائيات والأمينة المساعدة في متحف فيلد في مدينة شيكاغو، سارة روان، على أن الدراسة مبتكرة؛ إذ تقول: “كمية المعلومات المتعلقة بالتاريخ الطبيعي المجموعة في هذه الدراسة والأعداد الهائلة من الأنواع [المشار إليها] مذهلة”، وتضيف قائلة: “إن ما أنجزه المؤلفون يمثل طريقة مثيرة للتوصل إلى فهم أعمق لنجاح [الثعابين] على مستوى عالمي”. تقول روان أيضاً إنه من المرجح أن ينبع العديد من الدراسات على الثعابين والسحالي من مجموعة البيانات المثيرة للإعجاب هذه في المستقبل.

اقرأ أيضاً: شاهد بعضاً من أجمل الصور المذهلة عام 2023

ألغاز راسخة

على الرغم من التقدم الكبير الذي حققه مؤلفو الدراسة، فإنهم يدركون أنهم يجهلون الكثير حتى الآن. أثبت كل من الأبحاث التي أجراها رابوسكي على مدى عقد من الزمن وعشرات الآلاف من العيّنات التي جمعها “مدى جهل العلماء بالحقائق البيولوجية الأساسية حول أقسام هائلة من الحياة في الأرض”، بحسب تعبيره. وهو يقول إنه على الرغم من العدد الكبير من الأبحاث التي أجريت، والتي تضمنت إعادة فحص العينات في المتاحف وجمع البيانات الوراثية، “هناك أقسام كاملة من العالم” لا يعلم العلماء ما الأنواع الموجودة فيها وأعدادها وكيفية تفاعل بعضها مع بعض، خاصة في المناطق الاستوائية. يتفق تايتل مع ذلك؛ إذ يقول: “لا يزال هناك الكثير من الأنواع التي لا نملك معلومات عنها”.

يقول رابوسكي إن هذا النقص يعني “أننا نتخذ الإجراءات عن جهل” عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على البيئة وفهم تعقيدات الأنظمة البيئية وتقييم التأثيرات البشرية في العالم. ويضيف قائلاً إننا “بحاجة إلى توسيع جهودنا على نحو متسارع بهدف جمع المعلومات الأساسية حول سلوك الحيوانات في الطبيعة” لتحسين أدائنا. على الرغم من أن تطور الثعابين إلى أشكال جديدة سريع، فمن المحتمل أن البشر يلغون احتمالات التطور هذه اعتباطياً قبل أن تُرصد نتائجها حتى.