على الرغم من أننا قد لا نتمكن من قراءة أفكار الكلاب، تشير دراسة جديدة إلى أن بعض الكلاب "الأذكى" قد يكون بمقدورها إدراك مواقع الأجسام بدقة أكبر. قد يتمكّن الباحثون من إثبات أن الكلاب تعالج المعلومات بطريقة مشابهة للطريقة التي يعالج وفقها البشر هذه المعلومات من خلال دراسة كيف يمكن أن تعكس هذه الظاهرة التي تحمل اسم الانحياز المكاني ما تراه الكلاب. وُصفت النتائج الجديدة في دراسة نُشرت بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في مجلة إيثولوجي (Ethology).
ما الانحياز المكاني؟
الانحياز المكاني هو الطريقة التي يعالج وفقها الدماغ المعلومات المتعلقة بالفراغ أو الموقع أو المسافة عندما يمكن تطبيق هذه المعلومات نفسها بسهولة على جسم ما.
عندما يشير شخص إلى جسم ما، يركّز الأطفال عموماً على هذا الجسم مباشرة. لكن الكلاب تفهم هذه الإيماءة على أنها إشارة تدفعها للنظر في ذلك الاتجاه المحدد الذي أشار إليه الشخص. لا يعود هذا الاختلاف في الفهم بالضرورة إلى حاسة البصر التي تتمتّع بها الكلاب، بل إلى الطريقة التي تفكّر وفقها أدمغتها بالإيماءات وتفسرها. يتجلّى الانحياز المكاني غالباً في الاختلاف بين ردود فعل الكلاب والأطفال عندما يبيّن لهم شخص ما مكان وجود لعبة أو مكافأة ما.
اقرأ أيضاً: كيف تسبب الانتقاء الاصطناعي في ظهور سلالات الكلاب؟
قال عالم الأعصاب والأعراق في جامعة أوتفوش لوراند في مدينة بودابست المجريّة والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، إيفايلو يوتشيف، في بيان صحفي: "يفسر الأطفال بدءاً من سن مبكرة جداً الإيماءة على أنها إشارة إلى الجسم، في حين أن الكلاب تفسرها على أنها إشارة اتجاهية. بتعبير آخر، يختلف معنى الإيماءة بين الأطفال والكلاب بغض النظر عن نية الشخص الذي أعطى الإشارة".
وفقاً ليوتشيف، رُصد الانحياز المكاني في الاختبارات السلوكية التي تبيّن كيف تتعلم الكلاب وتقلّد السلوكيات، ولكن لم يُدرس بصورة خاصة حتى الآن. لم توضّح الدراسات السابقة إن كانت الكلاب تتصرف بهذه الطريقة بسبب حاسة بصرها الضعيفة مقارنة بالرئيسيات الأخرى، أو لأن معالم الفراغ المحيط بها أهم بالنسبة لها من الأجسام القريبة المحددة.
تمكّن فريق من خبراء سلوك الحيوان في الدراسة الجديدة من فهم الطريقة التي يتغلب بعض الكلاب وفقها على الانحياز المكاني ضمن التحديات الصعبة.
تعلّم تحديد المواقع مقابل تعلم الأشكال والألوان
أجرى الفريق أولاً مهمتين سلوكيتين على 82 كلباً منزلياً من سلالات وأحجام مختلفة. خضعت الكلاب في إحدى المهام لحد أقصى يبلغ خمسين تجربة هدفت لتدريبها على ملاحظة إن وضعت المكافآت على يمين الطبق أو يساره. صُممت هذه المهمة لتعليم الكلاب عن الموقع عندما يوجهها البشر إلى تحديد مكان المكافأة.
استخدم الفريق في المهمة الثانية طبقاً مستديراً أبيض اللون وطبقاً مربعاً أسود اللون. وُضع الطبقان دائماً في المنتصف وتناول الكلاب المكافآت دائماً من نوع واحد من الطبقين فقط. ولكن عُرضت الأطباق على الكلاب في سلسلة شبه عشوائية لتعليمها عن شكل كل طبق ولونه. ساعد ذلك الباحثين على تحديد إن كانت الكلاب تتذكّر الموقع أو الخصائص الفيزيائية بسهولة أكبر.
قاس الفريق قدرة الكلاب على التعلّم من خلال سرعتها في الوصول إلى الطبق الذي يحتوي على المكافأة. لاحظ الباحثون أن الكلاب تتعلم بسرعة أكبر عندما توضع المكافأة على يمين الطبق أو يساره بدلاً من وضعها فيه.
يبدو أن الكلاب واجهت صعوبة أكبر في تذكّر إن كان الطعام موجوداً على الطبق الأبيض المستدير أو الطبق الأسود المربّع. أشار مقياس الانحياز المكاني إلى أن الكلاب تتعلّم عن مكان معين بسرعة أكبر من تعلّمها عن خصائص الجسم مثل اللون أو الشكل.
اقرأ أيضاً: ما زلنا لا نعرف حقاً من أين جاءت الكلاب
قياس الإدراك والبصر
أجرى الفريق مهمة أخرى أعقد بهدف تحديد إن احتفظت الكلاب بالمعلومات التي اكتسبتها حول موقع المكافآت. وضع الباحثون المكافأة على يسار الطبق عند اختبار الكلاب التي حصلت على المكافأة التي وُضعت على يمين الطبق في التجربة السابقة. ووضعوا المكافآت على الأطباق السوداء عند اختبار الكلاب التي مُنحت المكافآت على أطباق بيضاء في التجربة السابقة.
كان على الباحثين ملاحظة الاختلافات بين القدرات البصرية والإدراكية للكلاب المختلفة للتحقق إن كان الانحياز المكاني حسيّاً أكثر أو إدراكياً أكثر أو مزيجاً من الاثنين معاً. قاس هؤلاء طول رأس كل كلب، وذلك لأن هذه السمة ترتبط بحدة البصر لدى هذه الحيوانات. وراقبوا مدى كفاءة الكلاب في العثور على المكافآت.
قالت طالبة الدكتوراة والمؤلفة المشاركة للدراسة، جوفيا بوغنار، في بيان صحفي: "تختلف القدرات البصرية لدى الكلاب باختلاف سلالاتها، وهي تنتج على نحو غير مباشر من شكل رأسها. تُطوّر الكلاب ذات الرؤوس الأقصر (المعروفة علمياً باسم ذوات الرؤوس القصيرة) حاسة بصر تشبه نظيرتها لدى البشر. تتمتّع هذه الكلاب بحاسة بصر أكثر حدّة وتركيزاً مقارنة بالكلاب ذات الرؤوس الأطول، ويعود ذلك إلى بنية الشبكية لديها".
أجرى الباحثون سلسلة من اختبارات الذاكرة ومهارات الانتباه والمثابرة لقياس قدرات الكلاب الإدراكية. ولاحظ هؤلاء أن الانحياز المكاني أقل شدّة لدى الكلاب التي تستطيع رؤية التفاصيل الأدق بوضوح أكبر. وفقاً للفريق، تقلّ شدة الانحياز المكاني لدى الأطفال مع نموهم وازدياد ذكائهم، وقد ينطبق الأمر نفسه على بعض الكلاب الذكية.
اقرأ أيضاً: لماذا تتزايد تربية كلاب البلدغ على الرغم من قصر عمرها؟
بيّنت الدراسات السابقة أن ذكاء الكلاب يتعلّق بذاكرتها أكثر من قدرتها على تعلّم الكلمات الجديدة. أظهرت الكلاب التي تتمتّع بسمات يصّنفها البشر على أنها تعكس الذكاء أنها قادرة على المثابرة في إجراء المهام الأعقد. يمكن أن يساعد فهم ذلك علماء البيولوجيا على فهم تطور الكلاب بعمق أكبر.
يقول يوتشيف: "يتعلّق الانحياز المكاني لدى الكلاب بعقليتها وليس فقط بقدراتها الحسية. لاحظنا أيضاً أن الكلاب 'الأذكى' تتمتّع بمرونة أكبر ضمن الظروف التعليمية الصعبة وأنها تستطيع التغلّب على انحيازاتها".