تتمتع الحشرات العصوية بسمات على أسطح أجسامها النحيلة أكثر تفصيلاً مما يبدو للوهلة الأولى. يستطيع بعض أنواع هذه الحشرات الاختفاء بين النباتات لتجنب الحيوانات المفترسة. لا يعلم العلماء كيف طوّرت هذه الحشرات هذه القدرة على التمويه؛ إذ إنهم يجهلون إن كانت السمات الجسدية المحددة تتطور بالصدفة أم أنها تتبع نمطاً يمكن التنبؤ به. من المحتمل أن فريقاً من العلماء اكتشف أدلة على التطور المتكرر في الحشرات العصوية، وذلك بعد مراجعة البيانات التي جُمعت على مدار 30 عاماً. وُصفت النتائج في دراسة نشرت بتاريخ 24 مايو/أيار 2024 في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances).
عملية تطور تكرارية
هناك العديد من الأسئلة التي لم يكتشف العلماء إجابات عنها في مجال التطور، ولا سيما تلك التي تتعلق بآليات عمله. هل يحدث التطور في تسلسل تمكن ملاحظته بسهولة أم أنه يعتمد على أحداث الصدفة؟ وصف عالم التطور الراحل، ستيفن جيه غولد، هذه الظاهرة بأنها تشبه "إعادة تشغيل شريط الحياة". ورد هذا الوصف في كتابه غير الخيالي الذي صدر عام 1989 بعنوان " الحياة الرائعة: طَفل برجس وطبيعة التاريخ" (Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History)، وهو يثير سؤالاً عميقاً. هل ستبدو الحياة على الأرض مشابهة لما هي عليه الآن إذا أتيحت لها الفرصة للتطور مرة أخرى، أم أنها ستكون مختلفة للغاية؟
اقرأ أيضاً: لماذا يجب توثيق حياة الحشرات عن كثب؟ وما فائدته للإنسان؟
قال عالم البيولوجيا التطورية في جامعة ولاية يوتا والمؤلف المشارك للدراسة، زكريا غومبيرت، في بيان صحفي: "إذا صغنا هذا السؤال بطريقة تفرض أن جوابه هو أحد الخيارين المطروحين فقط، فسيكون ذلك بمثابة تبسيط شديد للمسألة. الإجابة ليست أن التطور 'عشوائي تماماً' أو 'حتمي تماماً ويمكن التنبؤ به'. مع ذلك، يمكننا من خلال تفحّص المقاييس الزمنية القصيرة العثور على أنماط تطورية قابلة للتكرار ويمكن التنبؤ بها".
بالنسبة للحشرات العصوية والنشاط التطوري عموماً، فإن حدوث التغيّرات بالصدفة أو في تسلسل واضح هو مسألة دقيقة للغاية. يعتمد الجواب غالباً على مورد ثمين، وهو الوقت.
مُغيرات غامضة للون
نظر فريق الدراسة في نوع من الحشرات العصوية المتعددة الأشكال يحمل اسم تيميما كريستيناي (Timema cristinae). تعيش هذه الحشرات العديمة الأجنحة في مختلف أنحاء أميركا الشمالية وتتمتع بألوان جسمية وأنماط متعددة الأشكال. بعضها أخضر اللون، ما يساعدها على الاندماج مع شجيرات الليلك في ولاية كاليفورنيا. ويمتلك البعض الآخر خطوطاً خضراء تختفي عندما تقترب الحشرات من شجيرات أدينوستوما فاسكيكولاتوم (Adenostoma fasciculatum) التي تتمتع بنقوش مشابهة. الاختباء بين هذه النباتات هو من الآليات الدفاعية الرئيسية التي تتمتع بها حشرات تيميما كريستيناي ضد الطيور الجائعة مثل طيور أفيلوكوما.
قال غومبيرت: "الطيور المفترسة هي عامل دائم التأثير في سمات أعضاء الحشرات، مثل اللون ووجود الخطوط من عدمه".
راجع مؤلفو الدراسة الجديدة البيانات التي جمعت على مدار 30 عاماً وتتعلق بتواتر ظهور أنماط الألوان المبهمة في 10 جماعات برية من حشرات تيميما كريستيناي في ولاية كاليفورنيا الأميركية. اكتشف الباحثون تقلبات يمكن التنبؤ بها في تواتر ظهور الخطوط في مجموعات الحشرات جميعها، ما يمثّل ديناميكية تطورية متكررة. وفقاً لغومبيرت، تتجلى هذه التقلبات نتيجة لظاهرة تحمل اسم الانتقاء الطبيعي السلبي المعتمد على التواتر. تحدث هذه الظاهرة حين تكون الأنماط اللونية المبهمة مثل الخطوط أكثر فائدة عندما تكون نادرة وليست رائجة. تتمتع الحشرات العصوية بهذه السمات غالباً لأن الطيور قد تكتسب طرقاً أكفأ للبحث عن فرائس أكثر وفرة إذا اعتادت على أنماطها.
اقرأ أيضاً: لماذا تنجذب الحشرات للضوء؟ دراسة حديثة تحل لغزاً عمره آلاف السنين
قال غومبيرت: "في النطاقات الزمنية القصيرة، يمكن التنبؤ تماماً بالتطور الذي يتضمن الاختلافات الموجودة. هناك عوامل تدفع هذا التطور لا تزول، مثل تغذّي الطيور على الحشرات".
يصبح التنبؤ بهذه الديناميكيات التطورية أصعب في النطاقات الزمنية الأطول. قد تشهد جماعات الحشرات حدث صدفة، مثل الجفاف أو الفيضانات، يتسبب باضطراب الوضع الراهن ويؤدي إلى ظهور النتائج التي لا يمكن التنبؤ بها. يمكن أن يؤدي ظهور طفرة جديدة في النوع إلى تطور سمة نادرة على نحو عشوائي في النطاقات الزمنية الأطول.
قال غومبيرت: "هذا أقرب حدث يمكن أن يقع إلى العشوائية الحقيقية. يمكن أن تزول السمات النادرة بسهولة بسبب أحداث الصدفة، ما يعني أن احتمال اختفاء طفرة جديدة قبل أن تؤدي إلى تطور سمة معينة كبير".
على سبيل المقارنة، هناك نوع مختلف من حشرات تيميما كريستيناي العصوية يتغذّى أيضاً على نباتات أدينوستوما فاسكيكولاتوم، وهو إما لم يكتسب هذه الطفرات التي أدت إلى تشكّل الخطوط وإما فقدها بسرعة. يعني ذلك أن تطور الخطوط على جسم الحشرة ليس نتيجة تطورية متكررة في هذا النطاق الزمني الطويل.
بطء التطور
الدراسات الطويلة المدى القابلة للتكرار على الجماعات الطبيعية نادرة، وهذا يشمل أبحاث تشارلز داروين الشهيرة حول الشرشوريات. إجراء هذه الدراسات صعب لأنها تقتصر على جماعة واحدة أو عدد قليل من الجماعات الحيوانية، ما يجعل استخلاص الاستنتاجات حول قابلية تكرار سمة معينة صعباً.
قال غومبيرت: "إجراء مثل هذه الدراسات صعب ليس فقط لأنها تتطلب جهداً متضافراً، بل لأن عملية التطور تستغرق وقتاً طويلاً لا يمكن تقصيره".