لا يذكر التاريخ إلا نوعين من الأشخاص، أحدهما هم الظالمون، الذين لم يعفُ عنهم التاريخ وفضحهم في صفحاته حتى يصيروا عبرة للاحقين. وهناك من يحفر التاريخ أسماءهم بخط بارز، فيتذكرهم الناس فيما بعد ويتخذون من قصصهم مصدراً للإلهام، فيتقدمون. من ضمن هؤلاء امرأة عاشت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكانت أول سيدة تحصل على جائزة نوبل في التاريخ مرتين. إنها "ماري كوري".
ماري كوري: حياتها المبكرة
في يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1867، استقبلت عائلة "سكلودوفسكا" في مدينة وارسو ببولندا، طفلة صغيرة، أعطوها اسم "ماري". وكانت هي الأصغر في أسرة مكونة من 5 أطفال ووالدين يعملان في مجال التعليم. تُوفيت والدتها عام 1878 إثر إصابتها بمرض السل، وكانت ماري وقتها طفلة صغيرة في سن العاشرة. أثارت وفاة أمها صراعاً كبيراً داخلها، جعلها تشكك في معتقداتها، كما عانت من الحزن والاكتئاب لفراق والدتها، ولم يستطع والدها تحمل مصاريفها بعدئذ.
وعلى الرغم من أنها كانت متفوقة واحتلت المركز الأول في دراستها الثانوية عام 1883، لكن الجامعة في وارسو لم تكن تستقبل النساء لاستكمال تعليمهن فيها، وهذا جعل رغبتها في تحقيق حلمها في إكمال دراستها مجرد حلم واضطرت للعمل. ولأنها تميزت في العلوم، كانت تعطي دروساً خاصة لتساعد عائلتها.
تميزت ماري الصغيرة بحبها الجارف للعلم والمعرفة، فقد كانت تهوى القراءة ولم تكفَّ عن التعلّم، إذ أرادت أن تصبح معلمة. لكن لم تساعدها أحوالها المادية بالالتحاق بالتعليم العالي الذي كان متاحاً للإناث خارج بلادها فقط.
اقرأ أيضاً: 10 أرقام وحقائق مدهشة عن جوائز نوبل في العلوم
تحقيق حلم الدراسة في باريس
كان لدى ماري أخت تُدعى "برونسلاوا" تدرس الطب في باريس، وعندما عرضت عليها أختها الالتحاق بجامعة باريس السوربون لدراسة العلوم، انتهزت ماري الفرصة، وغادرت نحو باريس من أجل دراسة الفيزياء في عام 1891. اجتهدت ماري في الدراسة، وحصلت على منحة "ألكساندروفيتش" التي تُمنح للطلاب البولنديين المتفوقين. وفي عام 1894، انتهت كوري من درجتها العلمية في الفيزياء والرياضيات وبدأت الاهتمام بالخصائص المغناطيسية للفولاذ، والتقت آنذاك بـ "بيار كوري"، الذي كان عالماً مشهوراً في الفيزياء وقتها، وتزوجا بعد عام واحد من لقائهما في يوم 26 يوليو/تموز 1895. استطاع الثنائي تحقيق إنجازات مذهلة بعد ذلك.
اقرأ أيضاً: كل ما تحتاج معرفته عن اليورانيوم
اكتشاف البولونيوم
عام 1896، اكتشف "هنري بيكريل" ظاهرة النشاط الإشعاعي، واستخدمت ماري وبيار هذه الظاهرة في الكشف عن عناصر جديدة. فقد لاحظت ماري أنّ عينات معدن اليورانينيت المحتوي على اليورانيوم، لديها نشاط إشعاعي أكبر من النشاط الإشعاعي لعنصر اليورانيوم النقي، ما جعلها تشك في أنّ هناك عنصراً آخر يوجد مع هذا المعدن. وعملت مع زوجها على استخراج ذلك العنصر باستخدام طرائق الفصل الكيميائية التحليلية القياسية. وبالفعل استخرجا عنصراً كيميائياً جديداً على صورة مسحوق أسود اللون أطلقا عليه اسم "البولونيوم"، عدده الذري 84، ووزنه الذري 209 وكان أكثر إشعاعاً من اليورانيوم بنحو 330 مرة.
اقرأ أيضاً: ماري كوري عبأت جيشاً من النساء في الحرب العالمية الأولى
كشف الستار عن الراديوم
بعد استخلاص البولونيوم، وجد الزوجان أنّ هناك سائلاً مشعاً، ما لفت انتباههما لوجود عنصر جديد لم يكتشفاه بعد في معدن اليورانينيت. بدأ الزوجان رحلة البحث عن العنصر الجديد، وطلبا كميات كبيرة من اليورانينيت وبذلا جهداً كبيراً جداً لإتمام العمليات الكيميائية لاستخلاص العنصر الجديد الذي أطلقا عليه "الراديوم". وفي عام 1902، استخرجا الراديوم. عدده الذري 88، ووزنه الذري 225.93.
تطبيقات الراديوم والبولونيوم
بمجرد اكتشاف عنصر الراديوم المشع، اتضح أنّ لديه خصائص علاجية ضد مرض السرطان، خاصة سرطان الثدي، كما يُعالج مرض السكري والروماتيزم وعرق النسا وغيرها.
وللبولونيوم أيضاً له العديد من التطبيقات، فهو يُستخدم كمصدر للطاقة الحرارية، إذ لديه قدرة على الاحتفاظ بخصائصه حتى 500 درجة مئوية، ما يجعله مناسباً كمصدر للحرارة في صناعة معدات الفضاء.
جائزة نوبل للفيزياء: أول امرأة تحصل عليها في التاريخ
عام 1903، حصلت ماري وبيار كوري بالمشاركة مع هنري بيكريل على جائزة نوبل للفيزياء، بالنسبة لآل كوري، تقديراً لجهودهم التي قدموها في ظاهرة الإشعاع، وشاركهما بيكريل لاكتشافه ظاهرة النشاط الإشعاعي التي لعبت دوراً بارزاً في هذا الاكتشاف. وبذلك، صارت ماري كوري أول امرأة تحصل على الجائزة في التاريخ، وفي نفس العام حصلت على درجة الدكتوراه في الفيزياء.
اقرأ أيضاً: جائزة أيغ نوبل: دع الناس يضحكون أولاً ثم اتركهم يفكرون
رحيل الزوج المخلص واستمرار الشغف
عام 1906، توفي السيد "بيار كوري" عندما تعرض لحادث أودى بحياته. حزنت ماري كثيراً على وفاة أكثر من دعمها في مشوارها العلمي، لكنها لم تيأس وراحت تستكمل تجاربها وأعمالها.
نوبل للمرة الثانية: في الكيمياء
تُوّجت جهودها بجائزة نوبل للمرة الثانية عام 1911 في الكيمياء، وبحسب تعليق لجنة نوبل أنها حصلت عليها بسبب جودها في النهوض بالكيمياء، واكتشاف عنصري البولونيوم والراديوم وجهودها في عزل عنصر الراديوم ودراسة طبيعة تلك العناصر المهمة.
وفاة ماري كوري
ركزت كوري جهودها خلال حياتها على ملاحظة ودراسة المواد المشعة، لكنها لم تكن حذرة بما فيه الكفاية، فمثلاً، عندما كانت تحاول استخلاص الراديوم كانت تعمل بيديها مباشرة، وتتجاهل تأثيرات المواد المشعة التي بين يديها، فأمضت بقية حياتها تتعرض للإشعاعات عالية الطاقة، ما جعل صحتها تتدهور في أواخر أيام حياتها، تحديداً في أواخر عشرينيات القرن العشرين إلى أن وافتها المنية في 4 يوليو/تموز 1934 إثر إصابتها بمرض سرطان الدم.