ما النهج المستقبلي الثوري الذي يمكّننا من مواجهة الشيخوخة؟

ما النهج المستقبلي الثوري الذي يمكّننا من مواجهة الشيخوخة؟
حقوق الصورة: بوبيولار ساينس العربية. تصميم: مهدي أفشكو.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قصة تدور حول مملكة يعيش سكانها في رعب من تنين ضخم يلتهم الكثير من البشر يومياً. تتجاوب المملكة بطاعته وتضحية كبار السن له، ويظهر علماء مختصون يدرسون التنين ويبتكرون طريقة لقتله باستخدام مادة متطورة. تتبدل وجهة نظر الناس حيال طبيعة التنين وقتله، ولكن الخيار المكلف للقتل يبقى تحدياً. للقصة إسقاط على تعامل البشر مع الشيخوخة على أنها إحدى مسلمات الحياة وعدم استغلال التقدم العلمي والتكنولوجي في معالجتها.

كان موقفاً مهيباً… لكنه في المقابل موقفٌ معتادٌ أيضاً وما أقسى اعتياد الألم حد الخدر…

حشدٌ كبيرٌ جداً مؤلفٌ من مئة ألف من الرجال والنساء الكهول جُمعوا في ساحةٍ كبيرة يحيط بها سياجٌ حديدي، تعلو وجوههم علامات البؤس والرعب وتشخص أبصارهم نحو الجبل المشرف على الساحة وقد بلغت القلوب الحناجر، بينما أطلق قطار طويل عويلاً جنائزياً مرعباً، مؤذناً بقرب تحركه ووجوب صعود الجميع إليه.

خارج السياج تجمعت أعداد غفيرة أخرى تراقب الجمع بعيون دامعة وتتعالى صيحاتهم وهم ينادون أحباءهم وقد أيقنوا أنها المرة الأخيرة التي يرونهم فيها، بين الجموع كان طفل صغير يلوح لجدته وهو يبكي بحرقة حتى غاب القطار خلف الجبل.

لم تكن تلك المجموعة من الكهول هي الأولى التي تُساق إلى قمة الجبل إلى غير رجعة، فقد سبقها خلق كثيرون من أفراد المملكة الذين يعيشون في أقصى الأرض.

اقرأ أيضاً: هل هناك طرق أفضل لعكس الشيخوخة اليوم من الراديوم الذي كان يُعتبر إكسيراً للشباب يوماً ما؟

بدأت القصة قبل عدة قرون عندما ظهر تنين هائل على قمة الجبل، كان وحشاً ضخماً راح يعيث في أرض المملكة فساداً ودمّر كل ما وطأته قدماه قبل أن يطلب من الملك أن يرسل إليه كل ليلة عشرة آلاف من الرجال والنساء يشبع بهم بطنه الكبيرة لقاء أمان المملكة وباقي ساكنيها.

رُفض طلب التنين في البداية، وهاجمه جنود ومحاربو المملكة ولكن كل المحاولات باءت بالفشل وتسلل اليأس إلى نفوس أفراد المملكة وهكذا لم يكن أمامهم خيار إلّا الاستجابة لطلبه وتنفيذ أوامره صاغرين.

في ظل حالة الشلل والعجز التام تلك، وسعياً لمواساة وإقناع أولئك المختارين للفداء ظهرت -وبدعم من الملك وحاشيته- فئة من الناس يعدونهم بحياة أخرى بعد الموت حيث لا تنين ولا طغيان، وفئة أخرى تعتبر أن وجود التنين أمر طبيعي وأن المعنى الحقيقي لحياة الإنسان يكمن في أن ينتهي الأمر به في معدة ذلك الكائن المستبد.

وهكذا أصبح التنين تدريجياً حقيقة من حقائق الحياة ومسلماتها وتركزت الجهود على كيفية إرضائه وتهدئته بدل التفكير في التخلص منه.

كانت عملية التضحية تتم عبر اختيار كبار السن على اعتبار أنهم قد استمتعوا ببضع عقود من الحياة لتقديمهم للتنين، فيتم جمعهم ثم سوقهم راجلين إلى قمة الجبل ليكونوا عشاءه.

اقرأ أيضاً: بعد إبطاء عجلة الشيخوخة عند الفئران: هل سيتمكن العلماء من إعادة عقارب الساعة للوراء عند البشر؟

وعلى مدى القرون اللاحقة كبُر وتضخم حجمه وراحت شهيته تزداد أكثر فأكثر، وبدأ يزيد مطالبه بشكلٍ تدريجي حتى وصلت إلى ثمانين ألف جثة بشرية كل ليلة وتطلب الأمر تطوير طريقة وصول هذا العدد الهائل إلى قمة الجبل فأنشأ الملك سكة حديد تحمل مقطوراتها الإتاوة البشرية كل عشرين دقيقة.

فرضت المأساة ظهور علماء متخصصين في علم التنين، يدرسون فيه تصرفاته وردود أفعاله وبنيته الفيزيولوجية والداخلية، ومع تقدم هذه العلوم ازداد فهمهم لطبيعته فاكتشفوا مثلاً أن الحراشف السوداء التي تغطي جسده أقسى من أي مادة أخرى خبِروها من قبل، وأنه لا سبيل إلى اختراقها على الإطلاق، فراحوا يطوّرون الأجهزة العلمية والأفكار لحل تلك المشكلة، وبدأت عجلة الاختراعات تدور ببطء ثم تسارعت تدريجياً وحققت قفزات لم يكن من الممكن للبشر تصورها.

أحد العلماء ذهب بعيداً في دراساته إلى حد التنبؤ بأن التقدم العلمي الذي تحقق سيمكّن المملكة وسكانها في النهاية من اختراع أداة ما قادرة على قتل التنين وتخليص البشرية منه إلى الأبد، فاعتبره كثيرون ممسوساً وغريب الأطوار، بل وأصبح منبوذاً والمفارقة أن نهايته كانت بأنه قُدِّم، هو الآخر، طعاماً للتنين.

وبعد عقود قليلة ناقش بعض علماء التنين نظريته معترفين بأن قتل التنين لن يكون سهلاً ولكنه ليس مستحيلاً أيضاً وإن الأمر يتوقف على اختراع مادة أقسى من درع التنين.

مرة أخرى قوبلت الفكرة بالرفض بحجة أن العلم لم يكتشف أي مادة بهذه المواصفات، ومع العمل الدؤوب استطاع أحدهم إثبات أن حراشف التنين يمكن ثقبها بجسم مصنوع من مادة مركبة معينة، واستطاع أن يستقطب عدداً من علماء التنين للانضمام إليه، وتمكنوا معاً من إنتاج تلك المادة واكتشفوا أن صنع قذيفة ضخمة من المادة وإطلاقها بقوة كافية نحو درع التنين سيكون كفيلاً باختراقه وقتله، ولكن ذلك مكلف للغاية.

أرسل بعض العلماء عدة عرائض إلى الملك يطلبون فيها تمويلاً لمشروع القذيفة المضادة للتنين، ولكن الملك كان مشغولاً بتطهير المملكة تارة من النمور التي تشكّل خطراً على السكان وتارة من الأفاعي الجرسية التي تهاجم القرى وفي خضم ذلك أُهملت العرائض وفُقدت في دواوين القصر.

استدعى الإهمال المتكرر لمطالب القائمين على مشروع السلاح تحركاً من نوعٍ آخر فنقلوا ما توصلوا إليه إلى عامة الناس محاولين زرع بذرة الأمل فيهم بإمكانية القضاء على التنين.

ومع الرغبة في الانعتاق من سلطة التنين ساد الشارع حراكٌ واضح وراحت المسيرات المطالبة بتطبيق وتوفير الدعم لهذا الاقتراح تخرج في الشوارع بشكلٍ يومي.

وصل خبر الحراك الشعبي إلى الملك فاستدعى مستشاريه وسألهم عن رأيهم بما يحدث، فأبلغوه بالعرائض التي تم إرسالها من قبل وأسباب عدم الرد عليها، وصوروا أصحاب المشروع كمثيرين للشغب، وحاولوا إقناعه بأن قبول الناس بحتمية تقديم البشر إلى التنين أفضل وأكثر جدوى بالنسبة للنظام الاجتماعي، كان بقاء التنين يصب في مصلحة بعض المتنفذين ومستشاري الملك فقد كانت إدارة التنين توفر عدداً لا بأس به من الوظائف وميزانية معتبرة وكان كل ذلك سيضيع إذا قُتِل التنين.

كان الملك قلقاً من أن يفقد شعبيته بين العامة فقرر عقد جلسة استماع مفتوحة.

اقرأ أيضاً: ساعة الشيخوخة: هل يمكن توقع عمر الإنسان حقاً؟

حان موعد الجلسة وعُقد الاجتماع في القاعة الكبرى داخل القلعة الملكية…

وشرحت كبيرة العلماء كيفية عمل الجهاز المقترح وتصنيع الكمية المطلوبة من المادة المركبة، ونوهت بأنه من الممكن الانتهاء من صناعة السلاح خلال 12 عاماً فقط، وأنه لا ضمانات على أن السلاح سينجح.

كان المتحدث التالي هو مستشار الملك للشؤون الأخلاقية فخطب بصوته الجهوري: “أنتم تفترضون أنه لديكم الحق في ألّا يتم ابتلاعكم وهذا تفكير ينطوي على الكثير من التكبر والغرور، فَقِصر الحياة البشرية هو نعمة لكل فرد سواء أدرك ذلك أم لا، إنه أمر محبط أن يرغب الشخص في مواصلة حياته لأطول فترة ممكنة دون القلق حول الغرض الأسمى من هذه الحياة، لكن دعوني أخبركم أن من الطبيعة الفطرية للتنين أن يأكل البشر، وأن من طبيعتنا البشرية أن نكون طعاماً للتنين نعم أيها السادة التنين ضروري، التنين خيّر”.

بدا المستشار واثقاً ومقنعاً، وبدا أن كلامه استطاع أن يؤثّر في شريحة واسعة من الحضور.

وبينما كان المتحدث التالي يسير نحو المنصة وقد ساد الصمت، صرخ الصبي، الذي فقد جدته، قبل أيام بأعلى صوته: “التنين سيئ”!

تابع الصبي وقد بدأ صوته بالتهدُّج: “أريد أن تعود جدتي، وعدتني جدتي بأن تعلمني كيفية إعداد كعك الزنجبيل، ثم جاء الجنود وأخذوا جدتي بعيداً إلى التنين.. التنين سيئ ويأكل الناس”

اخترقت شهادة الطفل العفوية والبسيطة الفقاعة التي شكّلها مستشار الملك بعباراته المنمقة والبليغة وعاد المزاج المطالب بقتل التنين والتخلص منه مرة أخرى يسود أجواء القاعة المكتظة، حتى الملك نفسه قال: “فلنقتل التنين”.

وهكذا بدأ المشروع في سباق مع الوقت، وتم أخيراً تحديد موعد إطلاق السلاح في ليلة رأس السنة الجديدة وبعد 12 عاماً بالضبط من الافتتاح الرسمي للمشروع.

كان آخر أيام السنة بارداً دون حضور للرياح لحسن الحظ وبذلك كانت الظروف مناسبة تماماً للإطلاق، انطلق الصاروخ وارتفعت أطراف أقدام الجماهير المحتشدة إلى أعلى، وشخصت عيونهم نحو الجبل البعيد، لقد جسد ذلك اللهب الذي راح يخترق الظلام روح البشرية جمعاء بمخاوفها وآمالها وما هي إلّا لحظات حتى تمايل التنين في الأفق وسقط، لقد تحررت البشرية أخيراً من طغيان التنين القاسي بعد قرون الاضطهاد.

عمت البهجة ولكن الملك بدا بمزيجٍ من السعادة والهم وهو يقول: “لقد قضينا على التنين اليوم لكننا بدأنا متأخرين كان من الممكن أن يتم ذلك قبل خمس سنوات وربما أكثر! وكنا سنتجنب التضحية بملايين الأرواح البشرية”.

وقف الملك خطيباً في الجماهير المحتشدة وقال: “لقد قطعنا طريقاً طويلاً لكن رحلتنا قد بدأت للتو. جنسنا البشري الآن في عمر صغير والمستقبل مفتوح أمامنا. سنسعى لأفضل مستقبل، نتعلم من أخطائنا ونتحسن، ونعمل نحو عالمٍ أفضل وأكثر استقراراً. الليلة سنحتفل بذكرى أسلافنا الأموات وبعد ذلك سنبدأ ببناءِ عالم أفضل”.

اقرأ أيضاً: يجنب الشيخوخة: التوصل إلى سر تجديد خلايا الجلد  

تأملات أخلاقية

تقليدياً، ركزت القصص المرتبطة بالشيخوخة على الحاجة الإنسانية لإقامة حياة بهيجة، وكان الحل الموصى به لتضاؤل حيوية الشباب ونشاطه واقتراب النهاية الحتمية بالموت هو الاستعفاء والتسليم بذلك. في الوقت الحاضر، هناك جدل أخلاقي حول إمكانية تأخير عملية الشيخوخة البشرية وحتى وقفها وعكس اتجاهها.

يتحدث العديد من علماء التكنولوجيا والعلماء المرموقين عن إمكانية تحقيق ذلك بفضل التطور التكنولوجي والعلمي.

يمكن للإنسان أن يسعى لتحقيق السلام الذهني وراحة البال بدلاً من التذمر من الشيخوخة. في المستقبل، يمكن أن نتخذ إجراءات حاسمة لتأخير عملية الشيخوخة وتحسين جودة حياة الإنسان مع تقدمه في السن.

الجدل الأخلاقي حول هذا الموضوع يتعلق بمصلحة توسيع نطاق الصحة البشرية قدر الإمكان، وعدم صرف الجهود فقط لزيادة مدى الحياة بحد ذاتها، بل لإبطاء أو وقف مرحلة الشيخوخة الإنسانية لتحسين نوعية الحياة والصحة والنشاط البشري.

اقرأ أيضاً: ما هو العمر الحيوي؟ وهل يمكن التحكم به؟

وبالإضافة إلى هذه التأملات الأخلاقية للعامة، هناك عدد من الدروس الأكثر تحديداً:

  1. تكيفت توقعات الناس مع وجود التنين، وأصبحوا غير قادرين على إدراك شره. الشيخوخة أيضاً أصبحت حقيقة مجردة على الرغم من المعاناة التي تسببها.
  2. علّلت الإنسانية عدم إمكانية قتل التنين بفشل المحاولات السابقة دون النظر إلى التقدم التكنولوجي. هل هناك خطأ مماثل في التقليل من فرص علاج الشيخوخة؟
  3. تم تحويل تركيز البحث والاهتمام إلى الأمراض الفردية بدلاً من برنامج بحثي ضخم لوقف الشيخوخة.
  4. حدث انفصال بين مصلحة المجتمع والمنفعة للبعض، لكن في النهاية اتخذت الأوامر الاجتماعية لصالح الناس وإنقاذ حياتهم.
  5. لم يكن هناك إحساس بالتناسب في تحديد الأولويات وترتيبها، وتم التركيز على القضاء على التنين دون الاهتمام بالشيخوخة.
  6. الخطاب البلاغي الأجوف واستخفافه بالحقيقة. بينما شهادة الصبي البسيطة كشفت الحقيقة المحورية حول التنين والشيخوخة البشرية.
  7. فشل في تقدير الحاجة الملحة للبحث عن علاج للشيخوخة.
  8. يواجه الملك وشعبه تحديات كبيرة بعد زوال التنين، يجب عليهم التعامل مع مجتمع مكيف ومشوه والعمل بشكلٍ خلاق ومبتكر لبناء عالم أفضل. يمكن أن يواجهوا اكتظاظ السكان ويركزوا على الاستدامة والتكنولوجيا الكفؤة.

هذه القصة مترجمة بتصرف عن القصة “The Fable of the Dragon-Tyrant” للكاتب نيك بوستروم