من المعروف أنه يمكن للروائح إثارة الذكريات القديمة. قد تسمع إيقاع أغنية قديمة، فتحاول جاهداً تذكرها، أو ترى شخصاً ولكن لا تستطيع تذكر اسمه، ولكن عندما تشم رائحة اللحم المشوي من مسافة بعيدة، سوف تتذكر على الفور حفلات الشواء الصيفية التي مضى عليها عقد من الزمن بتفاصيلها الدقيقة.
على الرغم من أن هذه الدفقات اللاإرادية من الحنين الشديد الذي تسببه هذه الروائح تدل بوضوح على قوة الرائحة، فإن الارتباط بين الروائح النفاذة والذكريات يعمل بطرق خفية خلال حياتنا اليومية. في الواقع، يمكن أن تؤثر هذه الارتباطات حتى على عاداتنا وسلوكياتنا بطرق يعتبرها معظمنا أن لا مفر منها. مع ذلك، إذا فهمت كيف تنشأ هذه الارتباطات، يمكنك استخدامها بوعي لتطوير عادات جديدة.
تبدأ كل عادة بإشارة، وتأتي هذه الإشارات من بيئتنا غالباً. على سبيل المثال، تذكرنا رائحة القهوة أن الوقت قد حان للعمل، وتساعدنا رائحة المعدن والعرق في صالة الألعاب الرياضية على تهيئة عقلنا للتمرين. بالنسبة للكثيرين منا، حرمتنا جائحة كوفيد-19 من الإشارات البيئية التي كانت تشكل سلوكنا في العالم الخارجي، لتحل مكانها مجموعة أصغر بكثير من الإشارات والمحفزات داخل منازلنا، ما أدى بنا إلى صعوبة تكوين العادات. لقد قمت بحل هذه المشكلة من خلال تكييف حاسة الشم بشكل هادف، ويجب أن تكون قادراً على تطبيق نفس العملية عند العمل على إنشاء روتين جديد.
كيف أصبحت شخصاً وظيفياً باستخدام طريقة بافلوف
في عام 2021، انتقلت من الشقة التي قضيت فيها السنة الأولى من تفشي الجائحة إلى مكان جديد له روائحه الخاصة على أمل التخلص من جمود الإغلاق والبدء من جديد. لكن عندما استحممت للمرة الأولى في منزلي الجديد بنفس الصابون الذي كنت أستخدمه من قبل، أدركت أنني ربطت رائحة ذلك الصابون بفكرة أني بقيت محبوساً في شقتي لعدة أشهر. كنت أخطط لتكوين عادات جديدة، لكنني جلبت معي إشارات من العادات القديمة، وقد جعلتني ذاكرة الرائحة أرغب في الاستلقاء وأخذ قيلولة. لذلك اشتريت نوعاً آخر من الصابون لا يمثل أي ارتباطات عاطفية بالنسبة لي، ثم كتبت مقالاً عن كيفية استخدامه.
اقرأ أيضاً: دع التكاليف الباهظة جانباً: أسهل روتين للعناية بالبشرة
لم أعد أذهب إلى صالة الألعاب الرياضية في أثناء الجائحة، وبدون رائحة المعدن والعرق، وجدت صعوبة في ممارسة الرياضة في المنزل. كنت بحاجة إلى إشارة جديدة لاسترجاع هذه العادة. لذلك لجأت لاستخدام عطر "أرم هامر فريش" (Arm and Hammer Fresh) المزيل لرائحة العرق قبل البدء بالتمارين في المنزل، لأن عقلي يربط الآن تلك الرائحة بصوت رفع الأثقال في النادي. تزول رائحة مزيل العرق قبل وقت طويل من نهاية التمرين، ولكني لم أستخدمه بهدف بقاء رائحته فترة طويلة.
قبل الجلوس لكتابة هذا المقال، قمت بإعداد فنجان قهوة ورش معصمي برائحة كولونيا "دوك كانون لينكولن" (Duke Cannon’s Lincoln)، وأفعل ذلك في كل مرة أجلس فيها للعمل. حتى في أفضل الأوقات، فإن مشكلة العمل من المنزل هي أن الحدود الفاصلة بين الحياة العملية والحياة الشخصية يمكن أن تكون ضبابية لدرجة يصعب عندها معرفة أين ينتهي أحدها ويبدأ الآخر.
نظراً لأن المكتب الذي أعمل فيه من المنزل هو نفس المكان الذي ألعب فيه ألعاب الفيديو عند الانتهاء من هذا العمل، فقد سهلت ارتباطات الرائحة عليّ إلى حد كبير تحويل استخدام أدواتي لغرضٍ آخر بين المساحات متعددة الأغراض في منزلي. عندما أشم رائحة كولونيا لينكولن، يعلم عقلي أن الوقت قد حان للبدء بالعمل وليس اللعب. عندما أنتهي من هذه المقالة، سأغسل يدي من الكولونيا لأني سأبدأ بتحضير العشاء، حيث من المرجح أن تحلّ مكانها رائحة الثوم القوية.
ما سبب الارتباط القوي بين الذاكرة والرائحة؟
يتم توجيه معظم المدخلات الحسية عبر منطقة المهاد في الدماغ، وهي بنية عصبية تساعد على نقل الإشارات عبر جميع أنحاء القشرة الأمامية للدماغ. ولكن عندما تشم رائحة شيء ما، فإن هذا الإدخال يتجاوز القشرة الأمامية كلياً. تنقل بنية منفصلة تسمى البصلة الشمية كل ما تشمه مباشرة إلى منطقة من الجهاز الحوفي في الدماغ تسمى القشرة الكمثرية، والتي تقع بين الحُصين واللوزة الدماغية.
جنباً إلى جنب مع القشرة الكمثرية، يُعتبر الحصين مسؤولاً عن الذاكرة المكانية والتعلم، في حين أن اللوزة مسؤولة عن الذاكرة العرضية والمعالجة العاطفية. هذا الشرح مفرط في التبسيط بالطبع، لكن هذه الأجزاء من بيولوجيتنا هي ما تتفاعل غالباً مع ذاكرة الرائحة. وهكذا، عندما تشم شيئاً ما، تتعمق ذكرياته في دماغك وتبقى هناك، مع ارتباط كل المشاعر والأماكن المتعلقة به بشكلٍ وثيق.
لقد أظهرت الدراسات أن الذاكرة (الحنين) التي تحفزها الروائح تسبب تأثيرات نفسية إيجابية أقوى من مجرّد استرجاع نفس الذاكرة. التفكير في طبخ الجدة عملية معرفية بحتة، بينما شم رائحة طبخها مرة أخرى في الواقع أمر مختلف كلياً. بالطريقة نفسها، التفكير في أنك "يجب أن أتمرن" هي عملية معرفية، بينما شمّ رائحة الصالة الرياضية أو مزيل العرق الذي ارتبط برفع الأثقال عملية مختلفة تماماً.
كيف يمكنك استخدام الروائح لإنشاء عادات جديدة
أولاً، حدد العادة التي تنوي تغييرها. بالنسبة لي، كان هدفي إعادة تكوين عاداتي ما قبل الجائحة، والتي أصبحت ممارستها أكثر صعوبة دون إشاراتها البيئية الأصلية. ضع في اعتبارك ما إذا كانت للعادة ارتباط برائحة ما يجب استبدالها، أو إذا ما كان عليك ربطها برائحة أخرى. يمكنك أيضاً استخدام روائح متنوعة في أوقات مختلفة لربطها بأغراض مختلفة لنفس المساحة، كما أفعل في مكتبي في المنزل.
بمجرد تحديد العادة التي يجب أن تربطها برائحة ما، عليك العثور على عطر مناسب لها. على سبيل المثال، أستخدم مزيل العرق الرياضي الرخيص عند ممارسة الرياضة، وكولونيا تشبه رائحة الكولونيا التي يضعها الحلّاق عندما أقص شعري للعمل. يمكنك إشعال شمعة معطرة عندما تنوي التأمل، أو رش معطر للجو للإشارة إلى أن العمل في اليوم قد انتهى وأن المنزل عاد مجدداً ليكون مكاناً للراحة.
الجزء الأكثر أهمية بعد ذلك هو الاستمرار بنفس الإجراء الذي تنوي ربطه بتلك الرائحة حتى يصبح الارتباط عميقاً في نظامك الحوفي. احرص على عدم استخدام أي رائحة مرتبطة بأي شيء آخر. على سبيل المثال، لا تستخدم عطرك المفضل عند الخروج إلى المدينة كرائحةٍ للعمل.
نصيحة أخيرة: إذا تابعت ذلك، فتأكد من أن لديك رائحة مخصصة للراحة والاسترخاء، وليس فقط لعادات العمل أو الإنتاجية. لدي زجاجة من الكولونيا أحتفظ بها للأيام التي لا أقوم فيها بفعل أي شيء مطلقاً، وعلى الرغم من أن هذه الزجاجة ممتلئة أكثر من زجاجة الكولونيا المخصصة للعمل، فإنني أتطلع بشوق دائماً إلى المرة القادمة التي أشمها فيها.