في بداية العصر الجليدي الأخير قبل 31 ألف عام، دُفن إنسان شاب فيما يعرف اليوم بشرق إندونيسيا في الأرضية الجافة لكهف على سفح أحد الجبال رُسمت على جدرانه بصمات اليدين. عاشت الجماعة التي انتمى إليها هذا الشخص على حافة منطقة كانت في ذلك الوقت قارّة منخفضة تُعرف باسم سوندا. وكانوا على الأرجح جزءاً من نفس مجموعة البحارة الأوائل الذين عبروا المحيط ووصلوا إلى أستراليا. كانت هذه المجموعة متطورة من ناحية أخرى أيضاً. إذ إنه وفقاً لدراسة نُشرت في مجلة نيتشر في 7 سبتمبر/ أيلول 2022، يعتبر هذا البالغ الشاب المدفون أول شخص ينجو من عملية بتر جراحية.
يعتبر الاهتمام بالمرضى والمصابين جزءاً مهماً من تطور البشر. تتطلب رعاية شخص مصاب بجروح خطيرة من المجتمعات تطوير المعارف الطبية وامتلاك ما يكفي من الموارد الاحتياطية لتسخيرها لعلاج المصابين. تحتوي الهياكل العظمية للبشر وإنسان النياندرتال على أدلة على شفاء إصابات شديدة تعود لعشرات الآلاف من السنين. ويحاجج بعض علماء الأنثروبولوجيا بأن القدرة على توفير الرعاية الطبية مكّنت أشباه البشر من الانتشار في جميع أنحاء الكوكب.
يتطلّب إنجاز عملية جراحية بنجاح المزيد من التطوّر الذهني. قال تيم مالوني (Tim Maloney)، عالم الآثار في جامعة غريفيث والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة في مؤتمر صحفي: "تعتبر النجاة من عملية البتر إنجازاً طبياً حديثاً في معظم المجتمعات الغربية"، وهي أصبحت ممكنة نتيجة تطوير المطهّرات الفعّالة في أواخر القرن التاسع عشر.
أولى عمليات البتر
عندما قام مالوني وفريقه بالتنقيب في موقع الدفن على أمل تعلّم المزيد عن الأشخاص الذين رسموا على جدران الكهف قبل 40 ألف سنة على الأقل، لاحظوا شيئاً غريباً. كانت القدم اليسرى من الهيكل العظمي مفقودة، بينما كانت العظام الحساسة للقدم اليمنى محفوظة بشكل جيد. عندما نظر الباحثون إلى طرف الرجل اليسرى عن كثب، لاحظوا أن عظمتي الظنبوب والشظية قد قُطعتا، وأن نهايتي العظمتين قد التأمتا.
عندما فحص الباحثون طرفي العظمتين، لم يجدوا أي علامات لهجوم حيوان ما أو سقوط على الصخور، وهي أحداث ستترك علامات الكسور أو سحق العظام على الحواف. تشير طبيعة الجرح المنتظمة إلى أنه قد أُحدث عن عمد. بناءً على عمر الشاب الذي يعود له الهيكل العظمي (19 عاماً تقريباً عند الوفاة) والعظام الملتئمة، يعتقد الباحثون أنه تم إجراء العملية الجراحية عندما كان هذا الشاب في مرحلة ما قبل المراهقة قبل 6-9 أعوام من وفاته. لم يبق هذا الشاب على قيد الحياة بعد العملية فحسب، بل تمكّن من الاستمرار في العيش في تلك المنطقة الجبلية الوعرة.
تقول ريبيكا غاولاند (Rebecca Gowland)، خبيرة بقايا الهياكل العظمية البشرية في جامعة دورام، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة، إنه حتى لو كان البتر عرضياً، "فإن قدرة الجماعة على الحفاظ على حياة هذا الشاب لا تزال ذات أهمية". تضيف غاولاند أنه لا يوجد أي سبب يجعلها تشك في أن تفسير القدم المفقودة هو عملية بتر بالفعل؛ إذ تقول: "رأيت عدداً من الأطراف المبتورة من قبل، ويبدو أن عظام هذا الشاب تبدو وكأنها مبتورة وملتئمة بالفعل".
يبيّن إجراء هذه العملية الجراحية وحقيقة أن الطفل نجا منها أن من أجراها يتمتّع بالخبرة والمعرفة الطبية والثقة بالنفس. يقول مالوني: "لا يمكن النجاة من بتر القدم دون تطبيق طرق للتعامل مع الصدمة وفقدان الدم وإمكانية الإصابة بالعدوى".
توافق غاولاند على هذا الكلام. وتقول إن إجراء هذه العملية يبيّن أنه كان "هناك أشخاص في ذلك المجتمع قادرون على تحديد الإجراءات اللازمة لعملية بتر قدم شخص ما".
لم يكتشف الباحثون ما كانت الحاجة لإجراء عملية البتر. ولم يتبق أي دليل مباشر على العملية نتيجة لأنها أُجريت قبل وقت طويل من وفاة الشاب. من المحتمل أن الشاب أصيب بعدوى خطيرة ما أو تعرّض لإصابة ساحقة كبيرة في قدمه وكاحله.
اقرأ أيضاً: عمليات جراحية نوعية تُجرى في مستشفى عربية ترقى من خلالها لدرجة المستشفيات العالمية
لكن يستطيع الباحثون وضع بعض التخمينات حول تفاصيل العملية الجراحية من خلال مقارنة الجرح بعمليات البتر الناجحة التي أجريت في التاريخ الحديث. كان على الجرّاحين التحكّم بالنزيف باستخدام الضمادات الضاغطة أو العاصبات أو عملية الكيّ. ويعتقد الباحثون أنه تم إجراء القطع باستخدام الأدوات الحجرية، والتي يمكن أن تكون حادة للغاية على الرغم من قابليتها للكسر. يتم استخدام المشارط المصنوعة من حجر السبج في بعض العمليات الجراحية المتخصصة حتى في يومنا هذا.
ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه لم يتم إيجاد أي علامات تبيّن إصابة العظام بالعدوى على الرغم من أنه يصعب تجنّب هذه الإصابات في الوسط الذي أجريت فيه العملية (اضطر فريق التنقيب للتعامل بانتظام مع جروح ملوّثة). قد يتعلق تفسير ذلك بأن البشر استخدموا النباتات الطبية في تلك الفترة. يقول مالوني: "لا يزال من غير المحسوم ما إذا كان استخدام النباتات الطبية حكراً على المجتمعات التي تعيش في المناطق المدارية [والتي تتمتّع بتنوّع حيوي كبير]، أو إذا نتج عن عملية التجربة والخطأ في مجتمع يهتم فيه البالغون بصغارهم كما هو الحال في جميع المجتمعات حول العالم".
اقرأ أيضاً: متى تفوق إيجابيات الخضوع لجراحة البدانة مخاطرها ؟
تفيد غاولاند بأنه من الضروري ألا نفكر بهذه العملية الجراحية من منظور طبي حديث. ربما كان البشر قادرين على التحكّم بالنزيف والاعتناء بالجرح دون معرفة معلومات مفصلة عن الأوعية والأوردة الدموية وتشريح الأطراف. إذ تقول: "كانت لدى البشر معتقدات مختلفة للغاية عن التئام الجروح وجسم الإنسان في الماضي"، وتضيف: "لكن لا شك في أنهم كانوا يدركون أنه لا بُدّ من إيقاف النزيف وتجنّب تلويث الجرح، وهذا مثير للإعجاب بحق".
موقع الهيكل العظمي
تم اكتشاف الهيكل العظمي الجديد في الغرفة المركزية في كهف من الأحجار الجيرية يوجد في الحافة الشرقية لجزيرة بورنيو الإندونيسية ويطل على منابع نهر أمارانغ في وادٍ مليء بالرسومات على الصخور. يقول مالوني: "يشبه الكهف الكاتدرائيات كثيراً". تم تمييز موقع القبر بأحجار منقوشة، ووجدت حوله أدوات حجرية ومِسبَحة ذات صبغة حمراء.
بالنسبة لغاولاند، فالقبر الغريب والمميّز بالمسبحة الملونة مثير للاهتمام بقدر عملية البتر نفسها. إذ تقول: "ربما كان الشاب ذا مكانة خاصة قبل عملية البتر"، ما جعله مؤهلاً للخضوع للعملية، وتضيف: "ربما جعلته العملية ذا مكانة مميزة".
اقرأ أيضاً: وداعاً للمسكنات الأفيونية: ابتكار أول زرعة تحارب الألم دون أدوية
يشير مكسيم أوبرت (Maxime Aubert)، خبير تأريخ الرسومات الصخرية في جامعة غريفيث والمؤلف المشارك في الدراسة الجديدة إلى أنه ليس هناك بعد ما يكفي من المعلومات حول ثقافة المجتمع الذي انتمى إليه الشاب المدفون. كانت عمليات التنقيب التي اكتشف هيكله العظمي فيها جزءاً من دراسة مستمرة تهدف لاكتشاف الجماعة المسؤولة عن الرسوم الصخرية. ما يعرفه الباحثون هو أن الأعمال الفنية كانت ذات قيمة في ثقافة هذه الجماعة. بحلول الوقت الذي دُفن فيه هذا الشاب في الكهف، كان عمر الطلاء على الجدران يتجاوز 10 آلاف سنة.
تجعل عملية البتر التطور التقني والفني لهذه الجماعة من البشر أكثر إثارة للاهتمام، بغض النظر عمن كانوا. تعود ثاني أقدم عملية بتر جراحية معروفة إلى 7000 سنة مضت، ويعتقد أنها أجريت في فرنسا في العصر الحجري بعد ظهور الزراعة المستقرة. ينص أحد النماذج المفضلة لدى علماء الآثار على أن ظهور التكنولوجيا المتطورة يجب أن يترافق مع انتشار الزراعة ونمط الحياة الذي يتسم بالاستقرار. يقول مالوني: "يتحدّى الاكتشاف الجديد هذا النموذج، وقد يدحضه تماماً"، ويضيف: "هذه التكنولوجيا الطبية المتقدمة تفوق قدرات هذه المجتمعات القديمة التي تعتمد على الجمع والصيد".