أحد أهم الأسئلة في فرع فيزياء الجسيمات هو ما إذا كان الفرع نفسه يصف صورة غير مكتملة للكون. يحاول فيزيائيو الجسيمات في فيرميلاب (Fermilab)، وهي منشأة تابعة لوزارة الطاقة الأميركية تقع في ضواحي مدينة شيكاغو، حل هذه الأزمة. قاس أعضاء فريق التعاون الذي يحمل اسم "ميوون جي-2" (Muon g –2، تُقرأ "جي ناقص اثنين") التابع لفيرميلاب، جسيماً غريباً يحمل اسم "الميوون" بحذر. أصدر الفريق نتائجه المحدّثة في أوائل شهر أغسطس/ آب 2023 التي تبيّن أن الميوونات، وهي نظائر أثقل وأقصر أجلاً للإلكترونات، قد تخضع لتأثير ما غير معروف.
النظريات التي تمثل أساس فيزياء الجسيمات قد لا تكون دقيقة
إذا كانت هذه النتائج دقيقة، فهي تدل على أن النظريات التي تمثّل أساس فيزياء الجسيمات الحديثة لا تصف الكون بدقة! ولكن هل هذا تعبير دقيق فعلاً؟ بينما كان العلماء في هذا التعاون يدرسون الميوونات، أعاد الباحثون النظريون تقييم حساباتهم بطريقة تستبعد وجود خطأ فيها.
يقول عالم فيزياء الجسيمات في جامعة لانكاستر في المملكة المتحدة والعضو في تعاون ميوون جي-2، إيان بيلي: "في كلتا الحالتين، ثمة ظاهرة غير مفهومة يجب فهمها".
اقرأ أيضاً: هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
تنص النظرية الأساسية في فيزياء الجسيمات الحديثة التي أُثبتت مراراً وتكراراً؛ والتي تحمل اسم "النموذج المعياري"، على أن الميوونات هي من الوحدات الأساسية في كوننا. الميوونات، مثل الإلكترونات، هي جسيمات دون ذرية تحمل شحنة كهربائية سالبة؛ ولكنها بعكس الإلكترونات، تتحلل بعد بضعة أجزاء من مليون جزء من الثانية الواحدة فقط. مع ذلك، يرصد العلماء الكثير من هذه الجسيمات. الغلاف الجوي العلوي للأرض غني بالميوونات التي تتشكّل نتيجة لتفاعل الأشعة الكونية العالية الطاقة معه.
ولكن إذا لم تتصرف الميوونات دائماً كما يتوقّع الفيزيائيون، فقد يدل ذلك على أن النموذج المعياري غير مكتمل، وأن هناك بعض الظواهر الفيزيائية غير المعروفة حتى الآن تفعل فعلها. يقول بيلي: "اتضح أن الميوونات يمكن أن تساعدنا على اكتشاف القوانين الفيزيائية الجديدة أكثر من الإلكترونات".
سلوك الميوونات الغريب
كما هي الحال مع الإلكترونات؛ تدور الميوونات حول نفسها كالبلابل، مولّدة حقلاً مغناطيسياً. يعبّر الرمز "جي" في اسم التعاون السابق الذكر عن سرعة دوران هذه الجسيمات، ويأخذ قيمة 2 عندما تكون الميوونات في وسط معزول. أما في الأوساط غير المعزولة، الميوونات غير موجودة. وحتى في الأوساط المفرّغة، تترافق الميوونات مع الكثير من "الجسيمات الافتراضية" القصيرة العمر التي تنشأ وتفنى بسرعة هائلة وتؤثّر في اللف الذاتي للميوونات.
يجب أن يفسّر النموذج المعياري هذه الجسيمات أيضاً. لكن في العقد الأول من القرن الجاري، قاس العلماء في مختبر بروكهيفن الوطني اللف الذاتي للميوونات ووجدوا أنه كان أكبر على نحو ملحوظ من القيمة التي تنبّأ بها النموذج المعياري؛ ما قد يحمل عواقب كبيرة. ربما ارتكب هؤلاء خطأً ما، وربما تتأثّر الميوونات بجسيمات أو قوى لا يأخذها النموذج المعياري في الاعتبار.
إنجاز محتمل في تاريخ فيزياء الجسيمات
سيكون خرق النموذج المعياري أحد أهم الإنجازات في تاريخ فيزياء الجسيمات، ولا يستخفّ فيزيائيو الجسيمات بهذه التغييرات الكبيرة عادة. نقل علماء مختبر بروكهيفن تجربتهم إلى مركز فيرميلاب في ولاية إلينوي الأميركية؛ حيث تمكّنوا من استخدام مسرّع جسيمات أكفأ لتوليد الميوونات بكميات كبيرة، وبدأت تجربة ميوون جي -2 في عام 2018.
بعد 3 سنوات، أصدر التعاون التجريبي نتائجه الأولى، التي تشير إلى أن علماء مختبر بروكهيفن لم يرتكبوا أي خطأ ولم يتوهّموا ما رصدوه. تضم النتائج الجديدة بيانات جُمعت في تجربتين أُجريتا في عامَيّ 2018 و2019، تدعم ما نُشر في عام 2021 وتحسّن دقّته. تبدأ القيمة التي رصدوها للف الذاتي؛ والتي تساوي نحو 2.0023، بالاختلاف عن القيمة التي يتنبّأ بها النموذج المعياري بعد الرقم الثامن على يمين الفاصلة.
اقرأ أيضاً: الفيزياء تحلّ جريمةً ظلت لغزاً غامضاً لأكثر من 10 سنوات
ويقول عالم فيزياء الجسيمات في جامعة كورنيل والعضو في تعاون ميوون جي-2، لورانس غيبونز، "حصلنا على قيمة حقيقية دقيقة للغاية للشذوذ المغناطيسي".
لو توصّل الباحثون إلى هذه النتيجة قبل عدة سنوات، لكان من الممكن أن تمثّل دليلاً قاطعاً يبيّن وجود قوانين فيزيائية مختلفة عن النموذج المعياري. ولكن اليوم، هذا الاستنتاج ليس مباشراً تماماً. العالم الكمومي ليس بسيطاً بأغلبه، وتكمن المشكلة في هذه المسالة في حقيقة أن التنبؤ نفسه الذي ينص عليه النموذج المعياري غامض.
يقول بيلي: "حدث تغيير في النظرية نفسها".
قوى مختلفة
يعتقد الفيزيائيون أن الجسيمات الافتراضية التي تؤثّر في اللف الذاتيّ للميوونات تفعل ذلك من خلال قوىً مختلفة؛ إذ يؤثّر بعضها بفعل القوة الكهرطيسية التي يسهل حساب تأثيرها. بينما يؤثّر البعض الآخر من خلال القوة النووية الشديدة (التي نلاحظ آثارها بنحو أساسي لأنها تحافظ على التحام الجسيمات معاً داخل نوى الذرات). حساب تأثير القوة النووية الشديدة معقّد للغاية، ويستخدم فيزيائيو الجسيمات النظريون عادة بيانات جُمعت من تجارب سابقة في حساباتهم لفعل ذلك.
مع ذلك، تبنّت عدة مجموعات من الفيزيائيين النظريين مؤخراً تقنية تحمل اسم "الكروموديناميكا الكمومية الشبكيّة" (lattice QCD) تتيح للباحثين حساب القيم العالية للقوّة النووية الشديدة على أجهزة الكمبيوتر. عندما يُدخل العلماء الأرقام المحسوبة بهذه التقنية في تنبؤاتهم حول قيم اللف الذاتي للميوونات، فهم يحصلون على نتائج أكثر انسجاماً مع النتائج التي توصّل إليها تعاون ميوون جي-2.
ما يزيد غموض المسألة هو أن إحدى تجارب الجسيمات التي أُجريت في سيبيريا وتحمل اسم "سي إم دي-"3 (CMD-3،) توصّلت إلى نتائج تؤدي أيضاً إلى زوال التضارب الذي تبيّنه نتائج تعاون ميوون جي-2. يقول غيبونز: "هذه النتائج محيّرة بالفعل".
اقرأ أيضاً: كيف تساعدنا كريما البسكويت على تبسيط مفاهيم علمية للعامة؟
لم ينتهِ عمل تعاون ميوون جي-2 بعد؛ إذ يجب على العلماء في هذا التعاون تحليل كمية من البيانات جُمعت بين عامي 2021 و2023 تبلغ 3 أضعاف من كمية البيانات التي حللوها مؤخراً. بمجرد تحليل هذه البيانات، ما يمكن أن يُنجز في عام 2025، يعتقد الفيزيائيون أنهم سيستطيعون زيادة دقة تقديرهم للف الذاتي للميوونات بنسبة 100%. لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا التدقيق سيحسم المسألة؛ إذ يتسابق علماء الفيزياء النظريون لتعديل تنبؤاتهم. ويبقى السؤال "هل الميوونات تخضع لقوانين فيزيائية غير معروفة؟" دون جواب!