لا تقتصر فوائد إتقان التحدث بلغتين على مجرد القدرة على التواصل مع الآخرين؛ فهو يغير الدماغ حرفياً ويؤدي إلى زيادة اللدونة العصبية والحماية من التدهور المعرفي. يشير بحث جديد إلى وجود منطقة غامضة في الدماغ تتكيف على نحو مميز مع اللغات المكتوبة المختلفة، وهو اكتشاف يلقي الضوء على ألغاز التعرف على اللغات.
اختلاف نشاط مناطق محددة من الدماغ وفقاً للغات التي نتحدثها
نُشرت دراسة في 5 أبريل/ نيسان في مجلة ساينس أدفانسس (Science Advances) درس الباحثون فيها تعامل الأشخاص ثنائيي اللغة مع اللغات التي يجيدونها عندما تكون مكتوبة. واكتشفوا أن جزءاً من الدماغ، يسمى منطقة الشكل المرئي للكلمات (VWFA)، ينشط على نحو مختلف عند المتحدثين باللغتين الإنجليزية والصينية مقارنة مع المتحدثين باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
تختلف هذه الدراسة عن معظم الأبحاث التي أُجريت حول ازدواجية اللغة، والتي كانت تقارن من يتحدثون لغتين بمن يتحدثون لغة واحدة فقط، لكن هذه الدراسة تستهدف المقارنة مع الأشخاص الذين يتحدثون لغات ذات أنظمة كتابية مختلفة. حلّل العلماء أدمغة أشخاص يتحدثون اللغتين الإنجليزية والصينية، وأدمغة أشخاص يتحدثون الإنجليزية والفرنسية. في أثناء قياس نشاط الدماغ بواسطة جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي، عُرض على المشاركين بعض المحفزات البصرية مثل الحروف والوجوه والمنازل.
اقرأ أيضاً: الكتابة على الورق تحفز الدماغ مقارنة بالكتابة على الأجهزة الإلكترونية
عندما عُرضت تلك المحفزات باللغة الإنجليزية أو الفرنسية كانت استجابة منطقة الشكل المرئي للكلمات متشابهة في كلتا المجموعتين، ولكن عندما قرأ المشاركون الذين يتحدثون اللغتين الإنجليزية والصينية الحروف الصينية، لوحظ وجود مناطق محددة في الدماغ تنشط استجابة لرؤية هذه الحروف.
اكتشف فريق الدراسة وجود مجموعات من الخلايا العصبية الخاصة باللغة الصينية لدى المتحدثين باللغتين الإنجليزية والصينية، أما بالنسبة لمن يتحدثون الإنجليزية والفرنسية، كان نشاط أدمغتهم متماثلاً بغض النظر عن المحفزات اللغوية التي استُخدمت. كما يوضح البحث أن الدماغ يتطور بناءً على الخبرات التي يتلقاها الفرد طوال حياته.
يقول أستاذ علم الأعصاب بجامعة يورك، الذي لم يشارك في إعداد البحث، ديل ستيفنز (Dale Stevens): "هذه الدراسة إنجاز استثنائي من الناحية المنهجية، إضافة إلى أنها شاملة ودقيقة وواعدة من حيث التصميم، فهي تساعدنا في فهم منطقة الشكل المرئي للكلمات بشكل أفضل".
ما هي منطقة الشكل المرئي للكلمات؟
هي منطقة في الدماغ تتعرف على الكلمات المكتوبة تتطور عندما يتعلم الإنسان القراءة، ما يبني مسارات عصبية بين الأنظمة البصرية (المسؤولة عن معالجة المعلومات البصرية مثل الأشكال والألوان) والأنظمة اللغوية (المسؤولة عن معالجة المعلومات اللغوية مثل الكلمات والجمل) في الدماغ، ما يجعلها ضرورية لقدرة الإنسان على القراءة.
توقعت مؤلفة الدراسة الرئيسية والباحثة في علم الأعصاب الإدراكي في معهد نوروسبين (NeuroSpin) للأبحاث في فرنسا، ميني جان (Minye Zhan)، العثور على بعض الاختلافات العصبية بين من يجيدون اللغة الإنجليزية أكثر من اللغة الفرنسية، أو العكس، ومن يجيدون اللغتين بنفس الدرجة؛ لكن لم تظهر اختلافات في معالجة اللغة بين المتحدثين الذين شملتهم الدراسة، وهم 21 شخصاً، على الرغم من أن بعضهم يجيد إحدى اللغتين أكثر من الأخرى، أي أن الدماغ يتفاعل بالطريقة نفسها مع اللغتين.
تقول جان: "يستخدم الدماغ المسارات العصبية والمناطق الدماغية نفسها في معالجة اللغات المختلفة، بحثت بجد ولم ألاحظ أي فروقات تذكر. وكان ذلك مفاجأة كبيرة جداً".
ومن ناحية أخرى، تفاعلت أدمغة 10 متحدثين يجيدون الإنجليزية والصينية على نحو مختلف للغاية عندما عُرضت عليهم الحروف الصينية، علماً أن الصينية هي لغتهم الأساسية. عندما فحص الباحثون أدمغة هؤلاء المشاركين، وجدوا نشاطاً متميزاً متمثلاً بمجموعات من الخلايا العصبية المتخصصة في معالجة الحروف الصينية في منطقة الشكل المرئي للكلمات.
اقرأ أيضاً: 5 أمراض تصيب مراكز اللغة في الدماغ
كيف رسم الباحثون خريطة لنشاط الدماغ؟
في السابق، كان تحديد مناطق معينة من نشاط الدماغ يمثل تحدياً للباحثين. أما الآن فالأجهزة العالية الدقة للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، مثل جهاز 7 تسلا للتصوير بالرنين المغناطيسي (7-Tesla) المستخدم في هذه الدراسة، تتيح إجراء فحص أدق للدماغ. لاحظ فريق البحث نشاط سلاسل من مجموعات الخلايا العصبية عندما رأى المشاركون في الدراسة الكلمات الصينية، وتصف جان مجموعة المناطق الدماغية هذه بأنها تشبه المجرة.
تقول: "المثير للاهتمام هو وجود مناطق في الدماغ تعمل على معالجة أكثر من لغة، حتى إذا كانت اللغات مختلفة تماماً مثل الإنجليزية والصينية، وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بينهما، لكنهما تعالَجان في المنطقة الدماغية نفسها، مع العلم أن هناك مناطق دماغية متخصصة لمعالجة اللغة الصينية فقط".
ومن المثير للاهتمام أيضاً أن استجابة الدماغ للمحفزات اللغوية الصينية تتداخل وظيفياً مع منطقة تساعد في التعرف على الوجوه. وقد يكون الاختلاف في تفاعل الدماغ مع اللغات المختلفة مرتبطاً بعمليات التفكير والمعالجة المعرفية. يستطيع الدماغ التعرف على المحفزات البصرية إما عن طريق معالجة الصورة بشكل كامل، وإما عن طريق معالجة الأجزاء المكونة لها، وتختلف الاستراتيجية التي يختارها اعتماداً على اللغة المقروءة.
لماذا توجد مناطق خاصة باللغة؟
عندما ترى وجهاً، لن تميز العينين والأنف والفم أجزاءً منفصلة، بل ترى الوجه بصورته الكاملة. أظهرت الأبحاث أن الناطقين الأصليين باللغة الصينية يتعاملون مع الحروف الصينية بالطريقة نفسها، إذ تتشكل هذه الحروف من رسم مجموعة خطوط (strokes ) وجذور (radicals). في حين أن المعالجة الجزئية تشيع أكثر في اللغات الأبجدية، مثل الإنجليزية والفرنسية، إذ تُعالج الحروف الفردية، أو مجموعات الحروف، منفصلة ثم تُدمج لتشكيل كلمة مترابطة ومفهومة.
ترتبط التفسيرات الأخرى للاختلاف في معالجة اللغات المختلفة ببنية اللغة نفسها. على سبيل المثال، تشترك اللغة اليابانية وبعض اللهجات الكورية مع اللغة الصينية في استخدام الرموز التخطيطية التي تعبر عن المعنى، إذ تستخدم أنظمة كتابة هذه اللغات الأحرف التي تتوافق مع المفاهيم والأفكار والكلمات، أما اللغات الصوتية مثل الإنجليزية والفرنسية فتستخدم أحرفاً تتوافق مع الأصوات.
اقرأ أيضاً: ما التفسير العلمي وراء فقدان «بروس ويليس» قدرته على النطق؟
لا تقدم الحروف الصينية الكثير من الدلائل والإشارات حول كيفية نطقها، ويتعلم المتعلمون الجدد، ومنهم الأطفال الصينيون، نطق الحروف باستخدام نظام بينيين (Pinyin)، الذي يستخدم الأبجدية اللاتينية لتهجئة أصوات الحروف الصينية الرئيسية. ومن ناحية أخرى، عندما يدرس الأطفال اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، اللتين تتميزان بوجود علاقة قوية بين التهجئة والنطق، يُشجع هؤلاء الأطفال على نطق كل حرف في الكلمة بشكل مستقل وواضح لتعلم النطق الصحيح.
قد يتطلب تعلم اللغة الصينية مسارات عصبية مختلفة، ما يؤدي إلى تغيرات في الاتصالات العصبية في الدماغ مقارنة بتعلم اللغات الأخرى. وعلى الرغم من ذلك، ما تزال تفسيرات انقسام منطقة الشكل المرئي للكلمات إلى أجزاء مختلفة مجرد تكهنات في الوقت الحالي، إذ لا يعرف الباحثون بالضبط سبب اختلاف تفاعل الدماغ بين من يتحدثون الإنجليزية ومن يتحدثون الصينية، ولكن الأمر المؤكد هو أن المتحدثين باللغة الصينية لديهم نشاط دماغي خاص لم يُلاحظ لدى من يتحدثون الإنجليزية والفرنسية.
لم يكن إجراء هذا البحث ممكناً قبل بضع سنوات بسبب عدم توفر التقنيات والأدوات اللازمة. استخدم الباحثون في التجربة جهازاً فائق الدقة للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، يسمى 7 تسلا، يحتوي على مجال مغناطيسي قوي يمكنه مسح نشاط الدماغ بتفاصيل أدق مقارنة بالأجهزة السابقة (تسلا هي وحدة قياس شدة المجال المغناطيسي). وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على هذا النموذج في عام 2017.
في المقابل، قد يستخدم المستشفى جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي بقوة مجال مغناطيسي تصل إلى 1.5 تسلا أو 3 تسلا. تقول جان: "على الرغم من أن هذا المستوى من الدقة هو الشائع حالياً، لكنه لا يكشف عن جميع التفاصيل بدقة تامة، لكن هذا البحث يثير العديد من الأسئلة". يهتم فريقها بتكرار الدراسة مع مجموعات من المشاركين الذين يتحدثون لغات أصلية مختلفة ويستخدمون أبجديات مختلفة. كما ترغب جان في اكتشاف سبب ظهور هذه التجمعات المتخصصة من الخلايا العصبية اعتماداً على اللغة التي يستطيع الشخص قراءتها.
تقول جان: "لماذا تظهر تلك التجمعات المتخصصة؟ لا نعرف جواب هذا السؤال حتى الآن، ونراقب هذه المجموعات فقط. لذلك نبلغ عن النتائج الأولية ونشير إلى أنها تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة".