هل تعاني حساسية مرتفعة للألم؟ قد يعود ذلك إلى المتغيرات الجينية للإنسان البدائي

المتغيرات الجينية التي تعود إلى الإنسان البدائي قد تكون مسؤولة عن انخفاض عتبة الألم لدى بعض البشر

منذ أن تمكّن العلماء من سلسلة جينوم الإنسان البدائي (إنسان نياندرتال) أول مرة، درس علماء الوراثة الدلائل القديمة بحثاً عن آثار لهذه المجموعة المنقرضة من البشر داخل جيناتنا. يمكن أن يؤدي وجود هذه الجينات القديمة في أجسام البشر إلى ازدياد خطر الإصابة بالحالات المرضية الشديدة من كوفيد-19، فضلاً عن أنه يؤثر في شكل الأنف ويجعل بعض الأشخاص أكثر حساسية للألم.

وجدت دراسة جديدة نشرت بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في مجلة كوميونيكيشنز بايولوجي (Communications Biology) أن الأشخاص الذين يحملون 3 متغيرات جينية تعود إلى الإنسان البدائي هم في الواقع أكثر حساسية للألم الناجم عن وخز الجلد بعد التعرّض المسبّق لزيت الخردل. في هذه الحالة، يؤدي زيت الخردل دور ناهض، والنواهض هي المواد التي تحفّز الاستجابة الفيزيولوجية. يؤدي تلامس هذا الزيت مع الجلد إلى تحفيز استجابة سريعة من قِبل الخلايا العصبية التي تحمل اسم مستقبلات الأذيّة التي تولّد إحساساً بالألم.

دور الجينات في إدراك الألم

إس سي إن 9 أيه (SCN9A) هو جين يؤدي دوراً أساسياً في إدراك الألم، وهو يوجد على الكروموسوم الثاني. مستقبلات الأذية التي يُعبّر عنها بدرجة عالية هي التي تنشط عند تلامس جسم حاد أو ساخن مع الجسم. تشفّر الخلايا العصبية البروتينات داخل قناة الصوديوم في الجسم وتنبّه الدماغ، ما يؤدي إلى إدراك الألم.

كشفت الأبحاث السابقة 3 متغيرات في جين إس سي إن 9 أيه في جينومات الإنسان البدائي المسلسلة، وهي إم 932 إل وفي 991 إل ودي 1908 جي، وأبلغت عن أن الأشخاص الذين تحتوي أجسامهم على هذه المتغيرات جميعها أكثر حساسية للألم.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: للبشر المتشابهين بالشكل السلوكيات والجينات نفسها

قال عالم الأعصاب في جامعة أوكسفورد والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، ديفيد بينيت، لموقع بوبساي: "ثبت في الدراسات السابقة أن وجود الطفرات النادرة في هذا الجين التي توقف القناة عن العمل يمكن أن يتسبب بعدم الحساسية للألم. مع ذلك، ركّزنا في دراستنا على طفرات أخرى ثبت أن لها التأثير المعاكس المتمثّل في تعزيز نشاط هذه القناة، ما يجعل الأشخاص الذين يحملون هذه الطفرات أكثر حساسية إلى حد ما مقارنة بالذين لا يحملونها".

وفقاً لعالم الوراثة البشرية في كلية لندن الجامعية والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، أندريس رويز-ليناريس، بيّنت الدراسات السابقة أن هذه الطفرات نادرة جداً في جينوم البريطانيين، لكنها منتشرة جداً في جينوم سكان أميركا اللاتينية.

قال رويز-ليناريس لبوبساي: "بالنتيجة، أدركنا أن لدينا مجموعة البيانات المثالية ليس فقط لتكرار نتائج الدراسات السابقة بل لكشف هذه الآلية الشرطية للألم".

عتبات الألم

قاس الفريق في الدراسة الجديدة عتبات الألم لدى 1,963 شخصاً من كولومبيا استجابةً لمجموعة من المحفزات. كان المتغير دي 1908 موجوداً في نحو 20% من كروموسومات الأشخاص في هذه المجموعة، وحمل نحو 30% من الكروموسومات التي تحمل هذا المتغير المتغيرين الآخرين أيضاً. ارتبط وجود المتغيرات جميعها بانخفاض عتبة الألم استجابة لوخز الجلد بعد تعرضه لزيت الخردل، ولم ينطبق ذلك على استجابة الجلد للضغط أو الحرارة. بالإضافة إلى ذلك، ارتبط وجود المتغيرات جميعها معاً بارتفاع الحساسية تجاه الألم مقارنة بوجود متغيّر واحد فقط.

بعد ذلك، حلّل الفريق المنطقة الجينومية التي تحتوي على جين إس سي إن 9 أيه باستخدام البيانات الجينية التي تعود إلى 5,971 شخصاً من البيرو وتشيلي والبرازيل وكولومبيا والمكسيك، ووجدوا أن المتغيرات الثلاثة التي تعود إلى الإنسان البدائي كانت أكثر شيوعاً في المناطق التي كانت فيها نسبة السكان الأميركيين الأصليين أكبر، مثل سكان البيرو.

قال عالم الوراثة الإحصائية في كلية لندن الجامعية والمؤلف المشارك للدراسة، كاوستوب أديكاري، لبوبساي: "تنتشر [الطفرات] على نطاق واسع إلى حد ما في هذه البلدان؛ إذ يتراوح معدّل انتشارها بين 2% و42%. قد يحمل ما يصل إلى 18% من السكان في هذه المناطق نسختين من هذه الطفرات. مع ذلك، هذه تقديرات تقريبية. نعلم أيضاً من الدراسات السابقة أن هذه الطفرات نادرة جداً في جينوم الأوروبيين".

متغيرات تعود إلى الإنسان البدائي

يعتقد الفريق أن المتغيرات التي تعود إلى الإنسان البدائي قد تزيد حساسية الخلايا العصبية الحسية من خلال تغيير العتبة التي يولَّد عندها النبض العصبي. يمكن أن تكون هذه المتغيرات أيضاً أكثر شيوعاً لدى المجموعات التي تحتوي على نسب أعلى من الأميركيين الأصليين، وذلك بسبب الصدفة العشوائية فضلاً عن ظاهرة المختنقات السكانية (أو عنق الزجاجة السكانية) التي حدثت خلال فترة استعمار الأوروبيين للأميركيتين أول مرة.

اقرأ أيضاً: حملوا جينات دخيلة: الكشف عن الأصول الوراثية لشعب الفايكينج 

قال عالم الوراثة السكانية في المعهد الوطني لأبحاث الزراعة والغذاء والبيئة في فرنسا والمؤلف المشارك للدراسة، بيير فو، لبوبساي: "على الرغم من أن اختلاط الإنسان البدائي مع الأوروبيين أصبح معروفاً الآن في الثقافة الشعبية، فإن الإسهامات الجينية لهذا النوع في المجموعات البشرية الأخرى، مثل الأميركيين الأصليين في هذه الحالة، غير معروفة بالقدر نفسه. "لاحظنا في هذه الدراسة مدى أهمية دراسة الخلفيات الجينية غير الممثلة بما يكفي في مجموعات البيانات الطبية".

يخطط الفريق لإجراء المزيد من الأبحاث لتحديد إن منح وجود هذه المتغيرات والتمتّع بحساسية أكبر للألم أفضلية تطورية للبشر لأن الألم الحاد يمكن أن يؤدي دوراً في اتباع السلوكيات المعتدلة والوقاية من الإصابات. فهم آلية تأثير هذه المتغيرات يمكن أن يساعد الأطباء أيضاً على فهم الألم المزمن وعلاجه.

يقول بينيت: "الجينات ليست سوى واحدة من العديد من العوامل التي تؤثر في الألم، التي تشمل البيئة والخبرة السابقة والعوامل النفسية".

المحتوى محمي