في حين أن الإجهاد واقع مؤسف للحياة المعاصرة، إلا أن العلماء ما زالوا يتعلمون كيف يؤثر فينا. وقد ربطت الدراسات العلمية الإجهاد المزمن، على وجه الخصوص، بالعديد من النتائج الصحية السلبية، ووجدت دراسة جديدة نشرت في 11 فبراير/شباط في مجلة "بلوس بيولوجي" (PLOS Biology) أنه في الفئران، على الأقل، يمكن أن يؤثر أيضاً في الطريقة التي يعالج بها الدماغ الصوت.
اقرأ أيضاً: اكتشاف جديد: بكتيريا الأمعاء تغير بروتينات الدماغ سراً
الإجهاد يؤثر في طريقة معالجة الدماغ للصوت
استكشف عمل الفريق تأثير الإجهاد المزمن في إدراك الفئران للأصوات على أنها صاخبة أو هادئة. وتصف الورقة البحثية كيف عرّض فريق العمل مجموعتين من الفئران لعدد من الأصوات، بعضها مرتفع وبعضها الآخر خافت. عمل الفريق على تعليم الفئران أن تختار مصدراً معيناً للماء عند سماع الأصوات الخافتة، وتختار مصدراً بديلاً عند سماع الأصوات المرتفعة. ثم وضعوا بعض الفئران في حالة من الإجهاد المزمن عن طريق تعريضها المتكرر لموقف مجهد إلى حد ما (في هذه الحالة، جرى تقييدها مدة نصف ساعة).
بعد ذلك عرّض الفريق كلا المجموعتين لمجموعة متنوعة من الأصوات. بالنسبة للأصوات المرتفعة جداً والخافتة جداً، كانت استجابات الفئران المجهدة وغير المجهدة متطابقة إلى حد كبير. ومع ذلك، كما أوضحت الباحثة المشاركة في الدراسة جينيفر ريسنيك لمجلة بوبيولار ساينس، بدا أن الفئران التي تعاني الإجهاد المزمن أصبحت أقل حساسية لمجال من الأصوات "المتوسطة المستوى" التي تتراوح شدتها بين 50 ديسيبل و70 ديسيبل تقريباً، حيث أفادت التقارير أن استجابات فئران هذه المجموعة أظهرت أن هذه الأصوات تبدو لها "خافتة" أكثر من أقرانها غير المجهدة. (يعادل مستوى 50 ديسيبل تقريباً مستوى الصوت الصادر عن محادثة تجري بصوت خافت أو هطول الأمطار، بينما يعادل مستوى 70 ديسيبل صوت المكنسة الكهربائية التي تعمل في الغرفة نفسها التي تكون فيها).
كيف يؤثر الإجهاد في القدرة على السمع؟
إذاً، هل يؤثر الإجهاد في قدرة الفئران الفعلية على السمع؟ أم إنه يغير الطريقة التي تعالج بها أدمغتها الإشارات المرسَلة إليها من آذانها؟
توضح ريسنيك أن الإجابة الثانية تبدو هي المرجحة: فمع أن الإجهاد لا يغير الإشارة الفعلية التي ترسلها آذان الفئران إلى دماغها استجابةً لصوت معين، فهو يبدو أنه يغير طريقة إدراك الحيوان لذلك الصوت.
تقول ريسنيك إن هذا التأثير ناتج عن حقيقة مفادها أن الإجهاد يؤدي إلى زيادة مستوى "الضوضاء الخلفية" داخل الدماغ. وتوضح أنه عند الفئران المجهَدة: "لاحظنا زيادة في النشاط الأساسي (العفوي) في الخلايا الاستثارية في القشرة السمعية".
في الدماغ الذي لا يوجد فيه هذا النشاط الأساسي المتزايد، تكون الإشارة الصادرة من الأذنين قوية نسبياً؛ أما في الدماغ المجهَد، فيقل الفرق بين مستوى الإشارة ومستوى النشاط العصبي المحيط. والنتيجة، كما تقول ريسنيك: "[هي] أن الدماغ يصبح أقل حساسية للأصوات المتوسطة المستوى. يمكنك التفكير في الأمر على هذا النحو: عندما ترزح تحت ضغط مزمن، قد يحتاج أطفالك إلى التحدث بصوت أعلى ليجذبوا انتباهك".
ومع ذلك، يبدو أن الأصوات المرتفعة جداً قادرة على اختراق هذا الحاجز؛ حيث تقول ريسنيك: "يبدو أن الاستجابات لمستويات الصوت المرتفعة محفوظة. أياً كان الأمر، فإن الدماغ يظل بإمكانه التفاعل عندما يكون الصوت مرتفعاً بما فيه الكفاية. لذلك إذا صرخ أطفالك، فسوف تسمعهم بوضوح تام، بغض النظر عن التوتر".
اقرأ أيضاً: كيف تساعد دراسة البرص على تطوير علاجات لاضطرابات التوازن والسمع؟
الطبيعة الفعلية للصوت لا تبدو مهمة
وبغض النظر عن ارتفاع الصوت، لا يبدو أن الطبيعة الفعلية للصوت مهمة: تقول ريسنيك إن "الإجهاد المزمن يغير المعالجة السمعية بطريقة تؤثر في المقام الأول في الحساسية تجاه شدة الصوت، لا في الحساسية تجاه ترددات معينة أو أنواع معينة من الأصوات". لذا فإن التأثير هو نفسه إذا كان الصوت حديث أطفالك، أو رنين جرس الباب، أو ترددات الصوت الجهير الصادر من مسجل سيارة عابرة.
ما يهم في الأمر هو مدى ارتفاع الصوت.
تقول ريسنيك إن الآثار المترتبة على هذا العمل يمكن أن تغير فهمنا لكيفية تأثير الإجهاد فينا، حيث توضح: "غالباً ما نفكر في الإجهاد المزمن على أنه يؤثر في المقام الأول في الوظائف الإدراكية المعقدة مثل اتخاذ القرار والتعلم. ومع ذلك، تُظهر النتائج التي توصلنا إليها أنها تؤثر أيضاً في عمليات أساسية بدرجة أكبر، مثل إدراك الصوت.
وهذا يجعلنا نطرح سؤالاً مثيراً للاهتمام: كم من تجاربنا اليومية قد أثر فيها الإجهاد المزمن بطرق لا ندركها حتى؟
تأثير الإجهاد في تجاربنا اليومية قد يفوق توقعاتنا
هناك أيضاً أسئلة أخرى عديدة تثيرها نتائج الدراسة. تقول ريسنيك إن أحد الموضوعات المهمة في البحث على وجه الخصوص هو تطوير فهم أفضل للمدة التي يمكن أن تستمر فيها آثار الإجهاد المزمن بعد إزالة المصدر الفعلي للإجهاد. فالفئران في هذه الدراسة، على سبيل المثال، لم تخضع للدراسة وهي تحت تأثير الإجهاد بصورة فعلية، لكن مع ذلك كان للإجهاد الذي تعرضت له تأثير مادي في سمعها.
وفيما يتعلق بهذا التأثير على وجه التحديد، تقول ريسنيك: "تشير النتائج الحالية التي توصلنا إليها إلى أنه يستمر عدة أيام". ومع ذلك، تقول: "نحن الآن نجري المزيد من التجارب لتحديد إن كانت لهذه التغيرات عواقب طويلة الأجل".
وبالمثل، ما تزال الطريقة التي تترسخ بها هذه التأثيرات موضوع بحث مستمر. تقول ريسنيك: "إن التعرض للإجهاد مرة واحدة لم يكن له تأثير يُذكر، لكن مع تحول الإجهاد إلى حالة مزمنة، لاحظنا تغيرات واضحة بصورة متزايدة في نشاط القشرة السمعية".
هل يستمر التأثير في التفاقم مع زيادة مستويات الإجهاد؟
تقول ريسنيك إن هذا يبقى سؤالاً مفتوحاً.
على أي حال، كما تقول ريسنيك، فإن الطريقة التدريجية التي تترسخ بها آثار الإجهاد تشير إلى أن آثاره يمكن أن تكون خفية بقدر ما هي ضارة. وتقول: "هذا التطور التدريجي له آثار مهمة في الحياة اليومية. فهو يشير إلى أن الإجهاد فترات طويلة لا يؤثر فقط فيما نشعر به، بل يمكن أن يغير على نحو غير محسوس كيفية إدراكنا للعالم من حولنا".