هل تقف العبقرية أو الصدفة وراء الاكتشافات الكبرى؟

4 دقيقة
تيلمو بيفاني (Telmo Pievani)/إم آي تي بريس ريدر

تدور أحداث هذه القصة في أوائل القرن العشرين، عندما شهد عالم الكيمياء الفرنسي (والفنان ومصمم الديكور)، إدوارد بينيدكتوس، حادثاً عادياً في مختبره. أسقط بينيدكتوس دورقاً، لكن قطع الزجاج لم تتشظَّ هذه المرة، بل ظلت ملتصقة ببعضها مثل فسيفساء زجاجية. أثارت هذه الظاهرة اهتمام بينيدكتوس، وبحث بعمق أكبر واكتشف أن الدورق احتوى على محلول الكولوديون، الذي ترسّب على سطح الزجاج بمجرد تبخره مشكلاً طبقة رقيقة ربطت قطع الزجاج معاً. اخترع بينيدكتوس عندها الزجاج المقاوم للتشظّي عن غير قصد، لكنه تجاهل هذا الاختراع ووضع الدورق في خزانة ولم يخرجه إلا لاحقاً، عندما ظهرت المشكلة التي توصل إلى حلها بالفعل في قطاع تصنيع السيارات، وكأن الاختراع هو أم الضرورة وليس العكس.

اقرأ أيضاً: هل يمكن استخدام المنتجات الثانوية لعملية تعدين الألمنيوم لتصنيع الفولاذ الأخضر؟

ما هي السرنديبية؟

تُبين لحظات الاكتشاف بالصدفة هذه (أو السرنديبية) طبيعة الابتكار غير القابلة للتنبؤ. مع ذلك، تثير هذه الظاهرة سؤالاً أعمّ حتى في الحالات التي تسهم الصدفة فيها بالاكتشاف، مثل قصة بينيدكتوس، وهو: هل هذه الاكتشافات هي وليدة الصدفة بالفعل، أم إنها حتمية و"تنتظر" الشخص المناسب للوصول إليها؟

سيعترض المشككون على فكرة الصدفة ويصفونها بأنها غير واقعية. بطريقة أو بأخرى، من المرجح أن يتوصل أشخاص آخرون إلى الاكتشافات المعروفة اليوم جميعها. سيتوصل شخص ما إلى هذه الاكتشافات عاجلاً أم آجلاً إذا كانت الظروف ملائمة من حيث تطور المفاهيم والتكنولوجيا. سيكتشف البشر التخدير بطبيعة الحال، وكان من المرجح أن يخترع شخص آخر أوراق الملاحظات اللاصقة، شخص مختلف عن مكتشفها الفعلي. هذا ادعاء رائج ومُساء استخدامه ينص على أن النظريات "موجودة" كما لو كانت أشباحاً عائمة في فترة زمنية ما تنتظر فقط أن يكتشفها أحد ما. توصل كل من تشارلز داروين وألفريد والاس إلى نظرية التطور بالانتقاء الطبيعي على نحو مستقل وبالتوازي (علماً أن والاس اكتشفها بعد داروين بعقد ونصف)، واعتمد كلاهما على بيانات متشابهة مثل مؤلفات توماس مالتوس، ومن خلال اتباع طرق متشابهة أيضاً مثل رصد توزع الأنواع الحيوانية على الجزر، وما إلى ذلك. أضاف كل منهما تفاصيل دقيقة مختلفة للنظرية، لكن تطابق الأفكار كان مذهلاً.

ظاهرة من علم الأحياء قد تنطبق على الاكتشافات العلمية

حتى في القرن التاسع عشر، خلال المنافسة الدولية المحمومة لفك تشفير البنية الجزيئية للحمض النووي "دي إن أيه" وفي الجهود البحثية الهادفة لتطوير غازات التخدير وغيرها الكثير من الحالات، كان الانطباع النهائي هو أن تحقيق الهدف وشيك والحل قاب قوسين أو أدنى. تحمل هذه الظاهرة، التي نرصدها أيضاً في تطور الكائنات الحية، اسم "التقارب"، وهي تعني اكتساب نوعين غير وثيقي الصلة تكيفات وظيفية متشابهة، مثل اكتساب الخفافيش وبعض أنواع الطيور آلية تحديد الموقع بالصدى. يحدث التقارب لأن البيئة تفرض مشكلات متعلقة بالبقاء متشابهة على النوعين (مثل التوجيه في الظلام خلال الطيران)، أي إنها تفرض الضغوط الانتقائية المتشابهة. تمثّل هذه الظاهرة في علم الأحياء دليلاً مهماً قد يساعدنا على تفسير حدوثها في مجال المعرفة العلمية؛ إذ تفرض البيئة الضغوط الانتقائية المتشابهة (مثل مشكلة بحثية ما ووسائل الرصد اللازمة لحلها)، وتتنافس مجموعات بحثية مختلفة للتوصل إلى الحل (أو الحلول).

اقرأ أيضاً: هل تطور دماغ الإنسان فعلاً من الشمبانزي؟ إليك أبرز المسلَّمات التي أثبت العلم خطأها

بالفعل، تختلف الحالات المذكورة أعلاه قليلاً عن العديد من قصص الاكتشاف بالصدفة الواردة في كتاب "السرنديبية"، وذلك لأنها تضمنت (وتضمن غيرها الكثير أيضاً) سباقاً مدروساً لحل مشكلة محددة. لكن إذا حللنا الخطوات المتخذة التي أدت إلى المكتشفات، سنلاحظ وقوع بعض الأحداث بالصدفة بالفعل، مثل قراءة داروين ووالاس مؤلفات مالتوس في الوقت المناسب، ومكتشفات عالم البلورات جيري دونوهيو حول الروابط الهيدروجينية، والتي دفعت جيمس كريك وفرانسيس واتسون مباشرة إلى تصحيح نموذجهما للأزواج القاعدية النكليوتيدية واكتشاف بنية الحلزون المزدوج للحمض النووي "دي إن أيه" في مختبر واتسون، وغيرها. مع ذلك، لم تحدث العملية عموماً بالصدفة، ويجدر ذكر ذلك لتأكيد أن عمليات الاكتشاف لا تحدث جميعها بالصدفة بطبيعة الحال. لكن هل من الممكن فعلاً أن الاكتشافات جميعها كانت حتمية؟

هل كانت الاكتشافات جميعها حتمية؟

لنفترض أن هذا صحيح وأن أفضل ما يمكن أن يفعله الحظ هو تسريع المحتوم. اعتمد العلماء جميعهم على إنجازات من سبقوهم، ولا شك في أن تطور العلم يحدث على نحو تراكمي. لكن في مراحل معينة كانت الظروف فيها مواتية، العلماء المجهولون، وليس المشهورون، هم الذين توصلوا إلى اكتشافات غير مسبوقة. حتى عندما يبدو الاكتشاف قابلاً للتنبؤ أو متوقعاً، يظل دور كل من العالم الفرد والسياق المحيط مهماً للغاية. تتمتع بعض الاكتشافات بدرجة عالية وخاصة من العفوية، ويكون احتمال ظهور هذه الاكتشافات أكبر، لكن ذلك لا يعني أن هذه الاكتشافات لا تعتمد على معرفة العالم أو مجموعة العلماء، إضافة إلى أن الأمور الطارئة تؤدي دوراً مهماً أيضاً (فما الذي كان داروين ووالاس ليكتشفاه لولا المصادفات السعيدة للغاية التي نشأت خلال رحلاتهما؟).

لا يعلم أحد عدد الطرق المختلفة المتاحة التي كان يمكن الوصول إلى الاكتشاف نفسه من خلالها. على أي حال، ليس لدينا دليل قاطع على وجود هذه الطرق، وخطر انحياز الإدراك المتأخر (الذي يجعل شيئاً لم يكن يبدو ضرورياً من قبل مهماً بعد اكتشافه، ما يحوّل الصدفة إلى قدر) يتربّص دائماً. عندما تربط عقولنا سلسلة من المصادفات التي جعلت نتيجة مفاجئة ما ممكنة، فإنها تتوصل مباشرة إلى استنتاج مفاده أن سبب هذا التتابع من الأحداث هو قوة غامضة. تقول لنا عقولنا إن هذه النتيجة لا يمكن أن تكون صدفة، ما يعني أن الاكتشاف حتمي. تتجلى الخصائص الغامضة للكون على شكل مصادفات غريبة بالنسبة للعلماء.

هناك حجة استنباطية مضادة تساعدنا على تجنّب التفكير في تاريخ العلم بهذه الطريقة الغائية. لا يمكن اعتبار هذه الحجة برهاناً على أن الاكتشافات ليست حتمية، لكنها بمثابة دليل يشير إلى صحة الاكتشاف بالصدفة. ليس من قبيل المصادفة أن العلماء المجهولين، دون المشهورين، هم الذين تمكنوا من إجراء اكتشافات غير مسبوقة، أي إنهم هم من فتحوا آفاقاً جديدة للمعرفة. يمكننا أن نقول أيضاً إن عقل العالم المشهور كان سجين المعرفة المسبقة، ما يعني أنه كان محصوراً ضمن إطار عمل الأسئلة البحثية والعادات والطرق الراسخة. بالتالي، سيكون المحافظون أكثر عرضة للتوصل إلى اكتشافات متوقعة ومتعمّدة، وربما تكون بالأهمية نفسها، لكنهم سيظلون محصورين فيما يعرفونه وسيتجاهلون ما هو غير متوقع.

اقرأ أيضاً: أحدث 7 اكتشافات وإنجازات علمية في عام 2023

من ناحية أخرى، يتمتع العلماء الجدد غير المشهورين برؤى أعمق لأنهم تمكنوا بطريقة أو بأخرى (سواء عمداً أو بالصدفة، وهو ما يحدث غالباً) من التحرر من غلال المعارف الراسخة، بل إنهم ضربوا بها عرض الحائط أحياناً، ما مكنهم من تخيّل أشياء جديدة. يشير ذلك إلى أن المبدعين بعقولهم المتحررة هم الأكثر عرضة للتوصل إلى الاكتشافات بالمصادفة، أي تلك الاكتشافات الغريبة غير المتوقعة، وحتى التي تتسبب بزعزعة مجالاتهم. إذا نظرنا إلى هذه الحجة من الزاوية الأخرى، يمكننا القول إن الاكتشافات العلمية التي لها الأثر الأكبر والقيمة الأعلى حدثت بالصدفة، وستظل تحدث بالصدفة.

المحتوى محمي