بلسم التحنيط: سرٌ جديد من أسرار الحضارة المصرية

بلسم التحنيط: سرٌ جديد من أسرار الحضارة المصرية
تحتوي هذه الجرة الكانوبية (خابية الموتى) المصنوعة من الحجر الجيري على أعضاء تعود لسيدة مصرية من طبقة النبلاء تدعى سينيتناي؛ إذ حُفظت هذه الأعضاء باستخدام الزيوت العطرية. متحف أوغست كيستنر/كريستيان تيبر؛ مصدر الصورة: أنسبلاش/ مريم سليمان
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على الرغم من أن المصريين القدماء كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت للناس جميعهم، فإن عملية التحنيط كانت تقتصر عادة على العائلة الملكية والطبقة النخبوية. أراد الفراعنة المصريون ضمان انضمام أصدقائهم إليهم في العالم الآخر، لذلك، منحوا شرف التحنيط للأشخاص الذين كانوا جزءاً من دائرة معارفهم المقربين. ظهرت هذه الاكتشافات للعلن قبل أكثر من قرن، عندما فحص علماء الآثار الأدوات المستخدمة للحفاظ على جثة امرأة من طبقة النبلاء تدعى “سينيتناي” (Senetnay).

سينيتناي تكشف عن أسرار الطقوس الجنائزية

على الرغم من وفاة هذه المرأة، لا تزال قصتها حية. تستمر بقايا جثة سينيتناي في الكشف عن مزيد من المعلومات والأسرار حول الطقوس الجنائزية في مصر القديمة: ظلت الجرتان الفارغتان اللتان كانتا تحتويان على رئتيها وكبدها، في حالتهما الأصلية دون أن يمسهما أحد، حتى وقت قريب، في متحف أوغست كيستنر (August Kestner) في ألمانيا. تعاون فريق دولي من علماء الآثار لدراسة بقايا الزيوت الموجودة داخل الجرتين. توصل مؤلفو الدراسة، التي نشرت بتاريخ 31 أغسطس/ آب في مجلة ساينتفيك ريبورتس (Scientific Reports)، إلى تفاصيل جديدة عن حياة سينيتناي في الماضي والعلاقات التجارية المصرية.

عاشت سينيتناي في مصر عام 1450 قبل الميلاد، وكانت مرضعة لابن الفرعون تحتمس الثالث (Thutmose III)، أمنحوتب الثاني (Amenhotep II)، الذي أصبح فيما بعد فرعون مصر. تقول عالمة الآثار في معهد ماكس بلانك لعلم الأرض الجيولوجي في ألمانيا والمؤلفة الرئيسية للدراسة، باربرا هوبر (Barbara Huber): “تعكس عملية تحنيط سينيتناي مكانتها المرموقة التي تشبه مكانة الفراعنة”.

اقرأ أيضاً: دراسة للمومياء تكشف تفاصيل دفن صبي من مصر القديمة

فهم عميق لعملية التحنيط

في عام 1900، اكتشف عالم الآثار المصرية الشهير، هوارد كارتر (Howard Carter)، الذي اكتشف أيضاً مقبرة الملك توت عنخ آمون بعد 20 عاماً، الأجزاء المتبقية والمحفوظة من جسد سينيتناي في منطقة وادي الملوك (Valley of the Kings). على الرغم من عدم وجود الجسم بالكامل، لاحظ كارتر وجود 4 جرار استُخدمت لحفظ أعضائها الداخلية. في عملية التحنيط، يُجفف الجسم وتوضع الأعضاء داخل جرار تحتوي على زيوت مضادة للبكتيريا لتبطئ عملية التحلل. جمعت هوبر وزملاؤها 6 عينات من بقايا الزيوت الموجودة في قاعدتي الجرتين وجدرانهما الداخلية.

باستخدام عدة تقنيات كيميائية لفصل التركيب الكيميائي لكل عينة ودراسته، وجد الباحثون بقايا شمع العسل وزيوتاً نباتية ودهوناً حيوانية، بالإضافة إلى مادة القار (مادة بترولية) ومادة الراتنج. تقول خبيرة المومياوات وأستاذة الأشعة بجامعة القاهرة، التي لم تشارك في الدراسة، سحر سليم (Sahar Saleem): “تستخدم الدراسة أساليب علمية متطورة لتحليل مكونات الزيوت الموجودة في الجرار، بالإضافة إلى أن الأساليب الأثرية المستخدمة في البحث تتيح فهماً عميقاً ودقيقاً لعملية التحنيط الملكية بعيداً عن المفاهيم العامة والأساطير المصرية”.

عالمة تعمل تحت غطاء الأبخرة.
تعمل باربرا هوبر على عينات مصرية قديمة في مختبر الكيمياء الحيوية في معهد ماكس بلانك لعلم الأرض الجيولوجي في ألمانيا. كريس لايبولد (Chris Leipold)

أظهرت كلتا الجرتين أيضاً مؤشرات على وجود مركبات الكومارين (coumarin) وحمض البنزويك (benzoic acid). الكومارين هو مركب كيميائي ذو رائحة حلوة تشبه رائحة الفانيليا، ويوجد طبيعياً في القرفة. أما حمض البنزويك فهو مشتق من لحاء الشجر، ويتميز برائحة خفيفة وعطرة.

تقول هوبر: “نظراً لوجود الكثير من المواد العطرية المستخدمة في التحنيط، افترضنا أن الرائحة كانت تستخدم لإخفاء الرائحة الكريهة للجثث المتحللة. لابد أن تجربة استشعار الروائح كانت مثيرة وفريدة من نوعها”.

اقرأ أيضاً: الكشف عن طريقة فريدة لتحنيط التماسيح في مصر القديمة

مواد التحنيط تكشف عن علاقات تجارية بين مصر وأنحاء العالم القديم

من المرجح أن سينيتناي كانت تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة. لم يكن بعض المواد مستخدماً بصورة كبيرة في عمليات التحنيط بمصر في ذلك الوقت.

يشير وجود هذه المواد إلى أن عملية التحنيط نُفذت بعناية خاصة؛ إذ لا بدّ أن تكون هذه المكونات مستوردة من أنحاء العالم جميعها. على سبيل المثال، يمكن أن يكون أحد مواد الراتنج المستخدم لحفظ رئتيها هو صمغ الدمّار (dammar) الذي يُستخلص من الأشجار التي تنمو حصرياً في الغابات الاستوائية المطيرة في جنوب شرق آسيا. تقول هوبر: “هذا يعني وجود علاقات تجارية بين مصر القديمة وأجزاء أخرى من العالم في منتصف الألفية الثانية”.

من الممكن أيضاً أن يكون هذا الراتنج ينتمي إلى أشجار الفستق (Pistacia) التي توجد عادة في المنطقة الساحلية المتوسطية. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك دليل على وجود راتنج الصنوبر (larch resin)، استناداً إلى وجود مادة اللاريكسول (larixol) الطبية في جرة التحنيط. تُستخرج هذه المادة، التي كانت تُستخدم في روما القديمة، من نبات ينمو في منطقة تقع شمال مصر وتمتد عبر البحر الأبيض المتوسط. تشير هوبر إلى أن علماء الآثار لم يستكشفوا هذه المنطقة كلياً من حيث العلاقات التجارية، ما يقدم مزيداً من الدلائل على العلاقة بين مصر القديمة وأوروبا الوسطى.