من المحتمل أن فريقاً من العلماء من الولايات المتحدة وإيطاليا والصين فسّر أخيراً وجود فجوة كبيرة في السجل الأحفوري الإفريقي والأوراسي. وفقاً لنموذج ورد في دراسة نشرت بتاريخ 31 أغسطس/ آب 2023 في مجلة ساينس (Science)؛ انخفض عدد أسلاف الإنسان بشدّة في الفترة قبل 800 ألف إلى 900 ألف سنة. وقدّر مؤلفو الدراسة أن عدد الأفراد القادرين على التكاثر لم يتجاوز 1,280 فرداً خلال هذا المرحلة الانتقالية بين العصرين الحديث الأقرب المبكّر والحديث الأقرب الأوسط. ووفقاً للدراسة الجديدة؛ مات نحو 98.7% من أسلاف البشر في بداية هذه الفترة العصيبة التي استمرّت نحو 117 ألف عام.
عملية اندماج الزمن المتناهي الصغر السريعة
انتشر الإنسان المعاصر خارج القارة الإفريقية خلال العصر الحديث الأقرب المتأخر، وبدأت الأنواع البشرية الأخرى مثل الإنسان البدائي تنقرض. وقد وصل البشر إلى القارة الأسترالية والأميركيتين لأول مرة في هذا العصر، وكان المناخ بارداً عموماً. يشتهر هذا العصر بانتشار الصفائح الجليدية والأنهار الجليدية الضخمة التي تحرّكت حول العالم ومنحت عدة تضاريس أرضية شكلها المعروف اليوم.
استخدم مؤلفو الدراسة طريقة جديدة تحمل اسم "عملية اندماج الزمن المتناهي الصغر السريعة" للتوصل إلى استدلالات حول الديموغرافيا القديمة باستخدام السلاسل الجينومية البشرية الحديثة المأخوذة من 3,154 شخصاً.
اقرأ أيضاً: ما النظام الغذائي الذي اعتمده الإنسان في العصر البرونزي للحفاظ على صحته؟
قال عالم الوراثة السكانيّة النظرية في مركز العلوم الصحية التابع لجامعة تكساس في مدينة هيوستن والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، يون-شين فو، في بيان صحفي: "يمثّل كشف هذه الفترة العصيبة للغاية في تاريخ البشر القديم بتطبيق هذه الطريقة باستخدام عدد قليل من السلاسل الجينومية إنجازاً كبيراً غير مسبوق".
طبّق الفريق هذه الطريقة لدراسة تراجع أعداد أسلاف البشر والتنوّع الوراثي باستخدام السلاسل الجينومية المأخوذة من 10 جماعات بشرية إفريقية و40 جماعات غير إفريقية.
قال عالم الأنثروبولوجيا في جامعة سابيينزا والمؤلف المشارك للدراسة، جورجيو مانزي، في بيان صحفي: "يمكن أن تفسّر هذه الفترة العصيبة التي مرّت في أوائل العصر الحجري الفجوة في السجلات الأحفورية الإفريقية والأوراسية زمنيّاً. تتزامن هذه الفترة مع الفترة الزمنية التي يُعتقد أنها شهدت تراجعاً كبيراً في الأدلة الأحفورية".
الظواهر المناخية المتطرفة قد تكون مسؤولة عن هذا الانخفاض السكاني
يتعلّق بعض الأسباب المحتملة لهذا الانخفاض السكاني بالظواهر المناخية المتطرفة على الأرجح؛ إذ تغيّرت درجات الحرارة وامتدّت فترات الجفاف الشديد، ومن المحتمل أن مصادر الغذاء قلّت مع انقراض الحيوانات مثل الماموث والمستودون والكسلان العملاق. ووفقاً للدراسة الجديدة؛ من المحتمل أن ما نسبته 65.85% تقريباً من التنوع الوراثي الحالي فُقد بسبب تراجع عدد السكان في هذه الفترة. أدى تراجع التنوع الوراثي إلى إطالة الفترة التي انخفض فيها عدد الأفراد الذين كانوا قادرين على التكاثر بنجاح إلى الحد الأدنى، ومثّل ذلك تهديداً كبيراً لبقاء النوع.
مع ذلك، ربما أسهمت هذه الفترة في وقوع حدث انتواع (Speciation)؛ أي نشوء نوعين جديدين أو أكثر من سلالة واحدة. من المحتمل أن صبغيين من صبغيات أسلاف البشر اندمجا خلال حدث الانتواع هذا ليشكلا ما يُعرف اليوم بـ "الصبغي 2" للبشر المعاصرين. هذا الصبغي هو ثاني أكبر صبغي لدى البشر، وهو يحتوي على نحو 243 مليون وحدة بناء من أزواج الحمض النووي الأساسية. ساعد فهم هذه العملية الفريق على تحديد السلف المشترك الذي قد يكون الأخير لإنسان دينيسوفا والإنسان البدائي والإنسان العاقل (الإنسان المعاصر).
مجال جديد في مجال تطور الإنسان
قالت خبيرة علم الجينوم التطوري والوظيفي في جامعة الصين الشرقية العامة والمؤلفة المشاركة للدراسة، يي-سوان بان، في بيان صحفي: "يفتح الاكتشاف الجديد مجالاً جديداً في دراسة تطور الإنسان لأنه يثير العديد من التساؤلات؛ مثل تلك المتعلقة بالأماكن التي عاش فيها هؤلاء الأفراد وكيف تغلّبوا على التغيرات المناخية الكارثية وما إذا كان الانتقاء الطبيعي قد سرّع تطوّر دماغ الإنسان في تلك الفترة".
اقرأ أيضاً: هل كِبر حجم دماغ الإنسان هو خطأ تطوري؟
قد يتمكن الباحثون في الدراسات المستقبلية من اكتشاف كيف صمدت هذه المجموعة الصغيرة من السكان أمام الظروف المناخية القاسية. ومن المحتمل أن كلاً من تعلم كيفيّة السيطرة على النار وبدء سواد الظروف المناخية الملائمة للإنسان، أسهم في الزيادة السريعة في أعداد البشر منذ نحو 813 ألف سنة.
قال عالم الوراثة السكانية النظرية وعالم الأحياء الحسابي في معهد شنغهاي للتغذية والصحة والمؤلف المشارك للدراسة، لي هايبينغ، في بيان صحفي: "هذه الدراسة هي البداية لا أكثر. نهدف إلى استخدام هذه المكتشفات للتوصّل إلى فهم مكتمل لتطور البشر خلال هذه الفترة الانتقالية بين العصرين الحديث الأقرب المبكّر والحديث الأقرب الأوسط؛ ما سيساعدنا على كشف أسرار أصل الإنسان وتطوره المبكّرين".