هل يقتصر تقليد سلوكيات الأفراد البارزين على البشر؟

تشابك الأيدي في أثناء التنظيف هو إحدى أقدم العادات الاجتماعية التي لوحظت في جماعات قردة الشمبانزي. ديبوزيت فوتوز

لا يقتصر سلوك إمساك الأيدي على البشر المتحابين؛ إذ يمسك قرد الشمبانزي غالباً يد قرد آخر وهو ينظفه، وهو سلوك يحمل اسم "تشابك الأيدي". وفقاً لدراسة جديدة نُشرت بتاريخ 15 فبراير/ شباط 2023 في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances) ؛ يُعتبر تشابك الأيدي سلوكاً ودياً شائعاً بين قردة الشمبانزي وعادة اجتماعية تنتقل من جيل إلى آخر. بالإضافة إلى ذلك، وجد علماء الرئيسيات الذين ألفوا الدراسة الجديدة أن قردة الشمبانزي تقلد أسلوب تشابك الأيدي الذي يتبعه الأفراد الأبرز في الجماعة.

طرائق نقل العادات الاجتماعية

وتقول العالمة المتخصصة في تواصل الرئيسيات في مؤسسة فونا فاونديشن (Fauna Foundation)، والمحاضِرة الأولى في جامعة واشنطن المركزية، ماري لي جينسفولد (Mary Lee Jensvold) التي لم تشارك في الدراسة الجديدة: "ما يميّز هذه الدراسة هو أنها صوّرت التفاصيل الدقيقة في طرائق نقل العادات الاجتماعية بين قردة الشمبانزي، لاحظت هذا السلوك في تفاعلي مع قردة الشمبانزي الأسيرة ومراقبة سلوكياتها، ويسرني أن تتوافق هذه البيانات مع ملاحظاتي".

اعتقد علماء السلوكيات من قبل أن تقليد سلوكيات الأفراد الذين يتمتعون بمكانة اجتماعية أعلى هو سلوك يقتصر على البشر. خذ مثلاً قدرة بعض المشاهير؛ مثل لاعب كرة السلة السابق مايكل جوردن (Michael Jordan)، على التأثير في الآخرين؛ صور إعلان مشروب غيتوريد (Gatorade) الشهير الأشخاص الذين يريدون أن "يصبحوا مثل مايك" وهم يقلدون طريقته في ارتداء ملابسه ويشترون المنتجات التي يستخدمها. تقول جينسفولد: "من الناحية الثقافية، لا شك في أن البشر يتبعون عادات الأفراد المرموقين ذوي المكانة الرفيعة، وتوفّر هذه الدراسة أدلة أولية على أن ذلك ينطبق على قردة الشمبانزي أيضاً".

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: للبشر المتشابهين بالشكل السلوكيات والجينات نفسها

سلوك تشابك الأيدي عند قردة الشمبانزي

اكتُشف سلوك تشابك الأيدي في أثناء تنظيف قردة الشمبانزي بعضها بعضاً في عام 1978، وهي من المرات الأولى التي لاحظ فيها الباحثون عادات اجتماعية في جماعات الشمبانزي.

لاحظ الأستاذ المساعد في سلوك الحيوانات وقدراتها المعرفية في جامعة أوترخت الهولندية والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، إدوين فان ليوين (Edwin van Leeuwen) أن قردة الشمبانزي يمسك بعضها أيدي بعض بأكثر من طريقة، على الرغم من أن سلوكها هذا يشبه سلوك تشابك الأيدي لدى البشر، فبعض قردة الشمبانزي يفضل الإمساك براحات أيادي القردة الأخرى، بينما يفضل البعض الآخر الإمساك بالمعاصم والمرافق. يبدو أن قردة الشمبانزي تجرب أكثر من طريقة لتشابك الأيدي على مدى عدة سنوات قبل أن تعتمد الطريقة الأكثر اتباعاً في المجموعة.

ضغوط اجتماعية كالتي يعانيها البشر

يمكن تفسير تشابه سلوك البشر في المجموعات بعدة أسباب؛ مثل ضغط الأقران والرغبة في القبول الاجتماعي والخوف من الاستبعاد. في الدراسة الجديدة، سعى المؤلفون إلى اكتشاف السبب الذي يدفع قردة الشمبانزي لاتباع طريقة تشابك الأيدي الأكثر شيوعاً في جماعتها، وتنص الفرضية التي وضعوها على أن قردة الشمبانزي تتعلم اتباع سلوكيات أفرد محددين في مجموعتها نتيجة للضغوط الاجتماعية نفسها التي يعانيها البشر.

في الفترة بين عاميّ 2007 و2019، بحث الفريق عن السلوكيات التي تبين وجود نوعين من تحيّزات التعلم الاجتماعي في مجموعتين تضمان 71 قرداً من قردة الشمبانزي شبه البرية التي تعيش في محمية جمعية تشيمفونشي للحيوانات البرية اليتيمة (Chimfunshi Wildlife Orphanage Trust) في زامبيا. يحمل النوع الأول من التحيّز اسم تحيّز الأغلبية، ويحدث عندما يغير الحيوان سلوكه ليصبح مثل سلوك معظم أفراد المجموعة، أما النوع الثاني فهو يتعلق بالهيمنة والمكانة، ويظهر عندما يقلد الأفراد سلوكيات من يتمتعون بمكانة اجتماعية أعلى.

اقرأ أيضاً: لم تكتفِ بالصحة: الانبعاثات الكيميائية تغير السلوك الإنساني والحيواني

أظهرت قردة الشمبانزي ضمن الجماعات علامات على تحيز الأغلبية؛ إذ اتبع معظمها طرائقَ متشابهة في تشابك الأيدي، وينص أحد التفسيرات التي اقترحها المؤلفون على أن تقليد سلوكيات الأغلبية قد يساعد الأفراد في الحصول على الدعم في الصراعات أو عند الحاجة إلى التعاون.

تؤدي الأمهات دوراً بالغ الأهمية في السلوك الذي تتبعه قردة الشمبانزي؛ إذ إنها تعلم الصغار أساليب التنظيف التي سيتبعونها طيلة حياتهم. ويقول فان ليوين: "يكبر صغار الشمبانزي في هذه المجموعة وهم لا يعلمون شيئاً سوى أن سلوك تشابك الأيدي هو جزء من حياة قردة الشمبانزي".

قردة الشمبانزي في محمية جمعية تشيمفونشي للحيوانات البرية اليتيمة في زامبيا تشابك أيديها في أثناء التنظيف. إدوين فان ليوين، مارك بودامر (Mark Bodamer)، جمعية تشيمفونشي للحيوانات البرية اليتيمة

التحيز القائم على الهيمنة والمكانة موجود لدى القردة أيضاً

وجد الباحثون أيضاً علامات واضحة على التحيز القائم على الهيمنة والمكانة بين القردة؛ إذ كانت قردة الشمبانزي الأصغر سناً والتي لها مكانة اجتماعية أدنى تميل أكثر لتبنّي طرائق تشابك الأيدي التي تتبعها القردة ذات المكانة الأعلى.

لاحظ الباحثون أيضاً أن تشابك الأيدي في أثناء التنظيف لا يزيد فرص بقاء القردة؛ بل يبدو أن اتباع طريقة محددة لتشابك الأيدي هو ميزة اجتماعية إضافية يتمتع بها بعض جماعات الشمبانزي. يقول الباحثون إنه من الممكن أن تقلد القردة سلوكيات الأفراد الذي يتمتعون بمكانة أعلى لأنها تفترض أنهم يتمتعون بمستوى معين من الخبرة أو الحكمة، ومن المحتمل أيضاً أن تفعل ذلك كي ترفع مكانتها الاجتماعية. تقول جينسفولد: "إن اتباع سلوكيات الأفراد المهيمنين والأكبر سناً هو وسيلة للحصول على القبول الاجتماعي، ومع توطيد العلاقات تزداد الهيمنة".

اقرأ أيضاً: كيف تستفيد الدراسات العلمية من التشابه الوراثي بين البشر والكلاب؟

هل تحارب القردة التفرد؟

هل يعني ذلك أن مجتمع قردة الشمبانزي لا يشجّع على التفرّد؟ ليس بالضرورة. يقول فان ليوين إنه لا توجد مجموعة متسقة من الأدلة تثبت أن الحيوانات يثني بعضها بعضاً عن مخالفة الأعراف الاجتماعية أو يعاقب بعضها بعضاً عليها. في الواقع، لاحظ فان ليوين أن بعض القردة ينخرط في نوع من "المفاوضات"حين يستخدم قردان طريقتين مختلفتين لتشابك الأيدي بعد أن يرفض أحدهما اتباع الطريقة السائدة في الجماعة، ويضيف فان ليوين قائلاً: "ولكن لم ينتج من هذه المفاوضات أي صراعات أو انفعالات".

تشابك الأيدي في أثناء التنظيف ليس المثال الوحيد على العادات الاجتماعية التي يمكن أن تنتقل بين الأفراد في جماعات الرئيسيات؛ إذ يُعتبر استخدام الأدوات مثالاً شائعاً ولكن ربما كان لديها بعض من السلوكيات التي تصعب ملاحظتها. بهدف توسيع نتائج الدراسة الجديدة؛ يبحث فان ليوين حالياً عن أدلة على جوانب أخرى من التعلم الاجتماعي في حياة قردة الشمبانزي اليومية، وتنص فرضيته على أن العمليات الثقافية تؤثر في الحياة الاجتماعية للحيوانات أكثر مما نعتقد.

اقرأ أيضاً: دراسة الأصوات التي تصدرها قرود الأورانغوتان قد تساعد في حل لغز تطور اللغات

قد تمنح النتائج الجديدة أيضاً علماء الأحياء المختصين في علم الأحياء التطوري رؤىً أعمق عن تأثير الأعراف الاجتماعية مثل تقليد سلوكيات الأفراد البارزين، في النجاح التطوري للبشر. ويقول عالم الرئيسيات في مركز إيموري الوطني لأبحاث الرئيسيات في مدينة أتلانتا الأميركية، فرانز دي وال (Frans de Waal): "كلما تعلمنا أكثر عن الممارسات الثقافية التي تتبعها الأنواع الأخرى، وخصوصاً الرئيسيات، سنكتشف أكثر أن بعض الميول الثقافية التي لوحظت في المجتمعات البشرية قديم للغاية".

المحتوى محمي