قبل بضع سنوات، دفعت الأدلة المتزايدة حول الآثار الصحية المحتملة لمادة البيسفينول أ في منتجات الأطفال، مثل عبوات الحليب واللهايات، الحكومات إلى اتخاذ إجراءات لحظر هذه المادة في زجاجات الأطفال.
أصيب الآباء بالذعر، وتعالت تحذيرات الأطباء، لكن المادة لا تزال موجودة في معظم علب الأطعمة والمشروبات، وكذلك في أنابيب المياه المغلفة في العديد من البلدان. فما الذي تغير؟ هل أصبحت آمنة للاستخدام الآن؟ وإلى أي مدى يجب أن نقلق بشأن المواد البلاستيكية المحتوية على البيسفينول أ في حياتنا اليومية؟ إليك أحدث ما تنبغي معرفته حول مادة البيسفينول أ ومخاطرها.
ما هو البيسفينول أ؟
البيسفينول أ (Bisphenol A)، أو اختصاراً (BPA)، هو مركب كيميائي من مشتقات ثنائي فينيل ميثان. صُنع في المختبر لأول مرة عام 1891. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، اكتشف باحثون بريطانيون أنه يعمل بديلاً عن هرمون الأستروجين الأنثوي، لكنه لم يُظهر فاعلية كافية، ولم يلقَ رواجاً كعلاج دوائي.
في الستينيات، توصل الباحثون إلى أن مادة البيسفينول أ تشكّل لبنة أساسية في صناعة بلاستيك البولي كربونات، وتمنحه الصلابة والمتانة والشفافية.
لهذا السبب توجد مادة البيسفينول اليوم في عددٍ كبير من صناعات المواد البلاستيكية، مثل عبوات الشرب وحاويات الطعام، وعدسات النظارات، ومانعات تسرب حشو الأسنان، والأقراص المضغوطة، والورنيش والدهانات والمواد اللاصقة، وحتى وقت ليس ببعيد كانت تُستخدم في مستلزمات الأطفال والرضع، مثل اللهايات أو زجاجات الحليب أو الألعاب البلاستيكية.
اقرأ أيضاً: دراسة تكشف تسبب ألواح التقطيع البلاستيكية بتلوث اللحوم
لماذا يشعر بعض الناس بالقلق إزاء مادة BPA؟
تصاعد القلق والمخاوف من استخدام البيسفينول أ في الصناعات نتيجة عقدين من تحذيرات الخبراء:
- عام 1997، وجدت إدارة الغذاء والدواء الأميركية أن مادة BPA تتسرب من البطانة المعدنية لقارورة حليب الأطفال إلى الحليب.
- عام 1999، أفادت تقارير المستهلك بأنها قد تتسرب من زجاجات حليب الأطفال عند تسخينها.
- عام 2007، خلُصت لجنة من الخبراء الدوليين في المعاهد الوطنية للصحة إلى أن مادة BPA تمثّل خطراً واضحاً على صحة الإنسان.
- في الفترة بين عامي 2003-2004، قامت المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) بتقييم مستوى البيسفينول أ في عينات بول 2517 مشاركاً بعمر 6 أعوام فما فوق، وعثرت عليها في نحو 93% من العينات.
بالإضافة إلى ذلك، تُعد مادة البيسفينول أ أكثر عرضة للتحلل المائي من المواد البلاستيكية الأخرى، مثل البولي إيثيلين.
في الواقع إن التعرض لمادة البيسفينول أ قد يكون منتشراً أكثر مما قد تتوقع، ففي دراسة نُشرت في دورية علوم البيئة الكلية (Science of the Total Environment)، وُجدِت المادة في عينات بول نحو 85% من الأطفال الكوريين الذين تقل أعمارهم عن سنتين.
كيف تتسرب مادة البيسفينول أ من البلاستيك؟
ترتبط مادة البيسفينول أ كيميائياً بالبلاستيك خلال تصنيع المنتجات البلاستيكية، ويمكن لها التحرر منها إلى الطعام أو السائل داخل العبوات في عملية التحلل المائي، بتأثير الحرارة أو الماء، أو خدش الحاوية.
على سبيل المثال، يمكن أن تتسرب مادة (BPA) من طبقات راتنجات الإيبوكسي الداخلية الواقية للأطعمة المعلبة، ومن المنتجات الاستهلاكية مثل أدوات المائدة المصنوعة من البولي كربونات، ومن عبوات البلاستيك القابل للتسخين إلى الأطعمة كما في الأوعية المعدة للاستخدام في الميكروويف، أو من عبوات المياه بعد أن تتعرض لحرارة الشمس، أو عندما تضع العبوات البلاستيكية في غسالة الأطباق.
في دراسة نُشرت في دورية كيموسفير (Chemosphere)، وجد الباحثون أن غسل عبوات مياه مُصنّعة من البولي كربونات أدّى إلى تسرب 0.2-0.3 مليغرام من مادة (BPA) لكل لتر ماء.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تُظهر الحجم المروّع للمخلّفات البلاستيكية في مياه البحر المتوسط
الآثار الصحية لمادة البيسفينول أ
ربط العديد من الدراسات هذه المادة الكيميائية التي يحاكي تأثيرها تأثير هرمون الأستروجين بمجموعة متنوعة من المشكلات الصحية، مثل:
التأثير في خصوبة الرجال والإناث
للبيسفينول أ تأثيرٌ يشبه الهرمونات الجنسية للرجال والنساء، لقدرته على الارتباط بمستقبلات الإستروجين في الجسم، أي يمكنه محاكاة تأثيرها، أو حتى تعطيلها بعدة طرق:
- خصوبة الذكور: في دراسة نُشرت في دورية كيموسفير، انخفضت مستويات هرمون التستوستيرون لدى ذكور الفئران التي استهلكت مياه شرب معالجة بالبيسفينول أ، وانخفضت جودة الحيوانات المنوية، وارتفعت نسبة العقم لديها مقارنة بالعينة التي استهلت مياه شرب عادية.
- خصوبة الإناث: يظهر ضرر البيسفينول أ على خصوبة الإناث في الدراسة المنشورة في دورية علم الأحياء الإنجابي والغدد الصماء (Reproductive Biology and Endocrinology)، على إناث الفئران التي تعرّضت لمادة البيسفينول أ، وذلك بعدة طرق:
- انخفاض نسبة هرمون الإستراديول: ما قلل من عدد البويضات السليمة، وقدرة البويضة المخصبة على الانغراس في الرحم.
- النضج المبكر: أي شيخوخة مبكرة للجهاز التناسلي الأنثوي، وما يرتبط بها من تغيرات هرمونية.
- الإصابة بانتباذ بطانة الرحم ومتلازمة المبيض متعدد الكيسات.
تطور الأمراض والمشكلات الصحية
أشارت الدراسة المنشورة في دورية مضادات الأكسدة (Antioxidants)، إلى أن مادة (BPA) تسبب الالتهاب المزمن عن طريق إتلاف الميتوكوندريا (مصانع الطاقة في الجسم)، حيث يرتبط الإجهاد المزمن بزيادة خطر الإصابة بالسمنة وأمراض القلب والسكري من النوع الثاني.
مشكلات صحية للأطفال
في الدراسة المنشورة في دورية أبحاث العيوب الخلقية (Birth Defects Research)، استنتج الباحثون أنه يمكن لمادة البيسفينول أ تعطيل النمو الصحي للجنين والأطفال الرضع، لأن جسم الطفل غير قادر على تحطيمها، فتمر عبر المشيمة وحليب الثدي.
الإصابة بالسرطان
ربطت الدراسة المنشورة في دورية علم الصيدلة الجزيئي الحالي (Current Molecular Pharmacology)، بين التعرض لمادة البيسفينول أ بنسب منخفضة مع الإصابة ببعض أنواع السرطان، بما في ذلك سرطان المبيض والثدي والبروستاتا وسرطان القولون، بالإضافة إلى أنها تقلل من فاعلية العلاج الكيميائي.
المستويات الآمنة لمادة البيسفينول أ
عام 2013، حظرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA)، استخدام مادة البيسفينول أ في منتجات الأطفال التي تتلامس مع الطعام مثل الزجاجات أو عبوات حليب الأطفال، لكنها حددت في تقريرها الصادر عام 2014، أنه من الآمن التعرض لمادة البيسفينول أ حتى 5 مليغرامات لكل كيلوغرام من وزن الجسم يومياً.
وأشار التقرير إلى أن معظم الأشخاص يتعرضون لنحو 0.2-0.5 ميكروغرامات من البيسفينول أ لكل كيلوغرام من وزن الجسم يومياً، وهو أقل بكثير من الحد الآمن الذي حدده التقرير.
في المقابل، اعتبرت هيئة سلامة الأغذية الأوروبية أن هذه المستويات قد تكون غير آمنة، وتحمل آثاراً ضارة على صحة الإنسان.
كان هذا الاختلاف في الرأي بين الهيئات الصحية بسبب الاختلاف بين البشر والحيوانات في طريقة استقلاب مادة البيسفينول أ:
- يرى بعض العلماء أن نتائج الدراسات على الحيوانات كافية للحد من تعرّض الإنسان، فغياب التأثيرات الموثّقة على البشر، لا يعني بالضرورة عدم وجود آثار على صحة الإنسان وخاصة الأطفال.
- لا تتراكم المادة في الجسم، لأن الكبد يستقلبها، ويُخرجها مع البول خلال 24 ساعة فقط. لكن التعرض المتكرر لها قد يؤدي إلى مستويات قابلة للقياس.
اقرأ أيضاً: دراسة: مناديل الحمام الورقية تحتوي على مواد سامّة
منذ يناير/ كانون الثاني 2018، أصبحت مادة البيسفينول أ مدرجة في قائمة (REACH) بسبب آثارها الضارة على البشر وخصائصها البيئية، وREACH هي تنظيم تابع للاتحاد الأوروبي مختص بتصنيف المواد الكيميائية المحظورة، ويهدف إلى حماية صحة الإنسان والبيئة من المخاطر التي يمكن أن تشكّلها المواد الكيميائية.
عام 2022، خلُصت إدارة الغذاء والدواء الأميركية إلى أنها ستُعيد النظر في الكمية المسموح بها من مادة البيسفينول أ في المواد الملامسة للطعام بالنسبة للبالغين.