تتمتع الحيوانات المنوية بحس اتجاه فريد من نوعه؛ إذ إن هذه الخلايا التناسلية مولّفة بدقة في العديد من الأنواع للبحث عن البيوض بغض النظر عن بعدها وصعوبة الوصول إليها. خذ قنافذ البحر كمثال. يفرز كل من ذكور وإناث هذا النوع كميات من السائل المنوي وخلايا البويضات في المحيط. ولإيجاد البيوض وتلقيحها في المياه المفتوحة، تتبع الحيوانات المنوية لهذه الكائنات الشوكية التي تعيش في قاع البحر الدلائل الكيميائية. يحاول المهندسون اليوم الاستفادة من الآلية التي تطبقها الحيوانات المنوية لتصميم روبوتات أكثر ذكاءً وقادرة على إيجاد وجهاتها بأنفسها.
تستعرض دراسة نشرت بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول في مجلة فيزيكال ريفيو إي (Physical Review E) أوجه التشابه بين مسارات الحيوانات المنوية لقنفذ البحر والأنظمة الحاسوبية التي تطبق نوعاً من المقاربات اللحظية في البحث تحمل اسم البحث الأقصى. قام مهندسون من جامعة كاليفورنيا، إيرفاين وجامعة ميشيغان بتصميم نموذج رياضي لمسارات الحيوانات المنوية لفهم سلوكها بشكل أفضل. ووفقاً للمؤلفين، فإن دراسة الطبيعة الحيوية لقنافذ البحر قد تساعد في تصميم الروبوتات المصغّرة القادرة على تتبّع الإشارات من مصادرها بنفس الطريقة.
اقرأ أيضاً: دراسة: طفرات وراثية تجعل بعوض الزاعجة المصرية مقاوماً للمبيدات الحشرية
آلية عمل خوارزميات البحث الأقصى في الروبوتات المصغرة
منذ عشرينيات القرن الماضي، استخدم المهندسون آلية البحث الأقصى كتقنية تحكّم تكيّفيه لبرمجة التكنولوجيات التي تستخدم في توجيه الأنظمة بهدف تحسين جودة أدائها للحد الأقصى. تم استخدام هذه الآلية، للتحكم بتدفّق الوقود وتحسينه في أنظمة الدفع في الطيران وعمليات الاحتراق في المحركات والأفران الغازية وأنظمة الكبح المانعة للانغلاق في السيارات. يقول الباحث الذي يدرس الديناميكيات والتحكم في جامعة كاليفورنيا في إيرفاين والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، محمود عبد الجليل، إن المبدأ الأساسي لعمل خوارزميات البحث الأقصى في أي نظام ينطوي على تعقّب إشارة منبعثة من مصدر ما.
عندما تفكّر بالتصاميم الروبوتية، لن يخطر تكاثر قنافذ البحر على بالك. لكن يقول عبد الجليل إن الخلايا التناسلية لهذه الحيوانات تعتبر نماذج حيوية مفيدة ومدروسة بشكل جيد. لإيجاد البويضة، تستفيد الحيوانات المنوية لقنافذ البحر من ظاهرة تحمل اسم الانجذاب الكيميائي، والتي تتحرك فيها الخلايا كاستجابة لمحفّز كيميائي. تفرز بويضات قنافذ البحر مركباً يحمل اسم الببتيد المنشّط للنطاف، والذي يتفاعل مع سياط الحيوانات المنوية ويتحكّم بحركتها. يتسبب ذلك بتغيير جهة تحرّك النطاف على المسار الذي يؤدي في النهاية إلى البويضة.
يقول عبد الجليل: "لا تمتلك الحيوانات المنوية نظام تحديد المواقع"، ويضيف: "إنها لا تعرف موقع البويضة قبل أن تتحرك. لذلك، تتحسس هذه الحيوانات التركيز المحلي [لهذا الببتيد] في المواقع التي توجد فيها، ثم تستخدم هذه المعلومات للتحرّك في الاتجاه الذي يزداد التركيز وفقه، والذي ندعوه اتجاه تدرّج التركيز".
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: أعداد الحيوانات تزداد عند عيشها بالقرب من البشر
بماذا يمكن أن تفيد دراسة الحيوانات المنوية لقنافذ البحر؟
تنطبق نفس الآلية على الروبوتات التي تطبق خوارزميات البحث الأقصى. لا تُزوّد هذه الروبوتات بإحداثيات الوجهة المستهدفة أو أي معلومات أخرى حولها. وكل ما تُزوّد به هو القدرة على قياس الإشارات الديناميكية التي تتحسسها في موقعها وتتبّعها. فكّر عبد الجليل في دراسة الحيوانات المنوية لقنافذ البحر عندما قرأ ورقة بحثية منشورة سابقة تتحدّث عن سلوك هذه الحيوانات تحت المجهر. انطبقت المسارات التي اتبعتها الحيوانات المنوية بشكل كامل تقريباً على المسارات التي تنبّأ بها أحد نماذج البحث الأقصى المقترحة والخاص بتصميم روبوت أحادي العجلة، وهو عبارة عن آلة بسيطة تستطيع التحكم بتوجهها والتحرّك للأمام فقط.
يقول عبد الجليل: "بمجرد الاطلاع على هذه الورقة، أدركت أن آلية عمل هذا الروبوت هي نفس الآلية التي تطبّقها الحيوانات المنوية لقنافذ البحر". لذلك، بيّن عبد الجليل وزملاؤه في الدراسة الجديدة التشابه بين بعض الجوانب الأساسية في آلية توجّه الحيوانات المنوية لقنافذ البحر والجوانب الرئيسية لآلية البحث الأقصى.
يمكن أن تكون آلية البحث فائقة الفعالية هذه، والتي تطوّرت عبر الزمن في الطبيعة، مفيدة في تصميم الأنظمة والتكنولوجيات المستقبلية. يمكن أن تساعد خوارزميات البحث الأقصى التي تحتوي على الحد الأدنى من الحساسات في توجيه الروبوتات المصغرة مثل تلك التي يتم اختبارها في تكنولوجيا توصيل الأدوية المستهدف.
اقرأ أيضاً: على طريقة مناعة القطيع: شعاب مرجانية يمكن أن تنقذ أنوعاً أخرى مهدّدة بالخطر
يقول عبد الجليل إن بعض الفرق البحثية اختبرت بالفعل تصاميم الروبوتات المجهرية القادرة على توصيل الأدوية إلى مناطق معينة في الجسم والتي تستفيد من الإشارات الخارجية. على سبيل المثال، يذكر عبد الجليل أن الباحثين من معهد زيوريخ الفدرالي للتكنولوجيا في سويسرا صمموا روبوتاً صغيراً مستوحى من يرقات نجم البحر يتم توجيهه باستخدام الأمواج الصوتية ويمكن أن يستخدم يوماً ما في إيصال الأدوية مباشرة إلى الخلايا المريضة في الجسم. يقول عبد الجليل: "أتمنّى أن يتم تطبيق بحثي في النهاية في دراسة أو تصميم الروبوتات المجهرية التي تطبّق آلية البحث الأقصى لتوجيه نفسها بشكل آلي في البيئات المختلفة وإيجاد المواقع الدقيقة للخلايا المصابة التي تحتاج الأدوية".
يشير عبد الجليل أيضاً إلى أنه هناك بعض الكائنات الأخرى التي تطبق نوعاً من آليات البحث الأقصى، مثل البكتيريا في أثناء بحثها عن الطعام أو الطحالب التي تتحرك تجاه مصادر الضوء. يقول عبد الجليل: "يمكننا التعلم من سلوك هذه الكائنات الحية الدقيقة لتصميم الروبوتات التي تتصرف بطريقة مضبوطة بإحكام دون الحاجة لتلقي الأوامر"، ويضيف: "يمكن أن تزيد هذه التكنولوجيا من قدرة الروبوتات التقليدية على التحكّم بنفسها".