منذ نحو 12 ألف عام، انتقل البشر من أسلوب حياة الصيد والجمع إلى العيش في مجتمعات العصر الحجري الحديث القائمة على الزراعة. ما يزال لهذا التغيير تأثير هائل في حياتنا؛ ولكن معرفة كيفية حدوث هذا التحوّل في المجتمعات وطبيعة شبكات البشر الاجتماعية ليس سهلاً.
شبكة اجتماعية تعاضدية مستقرة
استخدم فريق من العلماء في دراسة نُشرت بتاريخ 26 يوليو/ تموز في مجلة "نيتشر" (Nature)، الحمض النووي الذي يقترب عمره من 7 آلاف عام لإعادة بناء شجرتَيّ عائلتَين ضخمتَين. تشير النتائج التي توصل العلماء إليها إلى وجود مجموعة من الإناث اللواتي غادرن مجتمعهن الأصلي للانضمام إلى مجتمع آخر، وتقدم الدراسة أدلة على أن الظروف الصحية كانت مستقرة وأن الشبكة الاجتماعية كانت تعاضدية ضمن أحد مجتمعات ما قبل التاريخ في أوروبا.
تتمثل إحدى الطرائق التي يحدد بها العلماء جودة العلاقات في طقوس الدفن التي تساعدهم على استنتاج من هم الأفراد الأقارب بمساعدة الممارسات الجنائزية السائدة في ذلك الوقت؛ لكن التحليلات الوراثية الحقيقية صعبة. تحتوي منطقة حوض باريس في شمال فرنسا على العديد من المواقع الجنائزية الضخمة التي يعتقد علماء الآثار أنها بُنيت لأعضاء "النخبة" من مجتمعات ما قبل التاريخ.
اقرأ أيضاً: الحمض النووي المأخوذ من أسنان ضحايا الطاعون يساعد في الكشف عن أصول جائحة الموت الأسود
موقع تجمّع غورجي المحلي
مع ذلك، فإن موقع تجمّع غورجي المحلّي الملقّب بـ "البندق" (Gurgy ‘Les Noisats’) القريب من هذا الحوض هو أحد أكبر المواقع الجنائزية من العصر الحجري الحديث الذي لا يحتوي على أي ضريح. وأثار ذلك تساؤلات حول ممارسات الدفن المختلفة في ذلك الوقت.
استخدم الفريق في الدراسة الجديدة بيانات قديمة على مستوى الجينوم استُخرجت من الموقع السابق الذكر بين عامَيّ 2004 و2007. تعود رُفات 94 فرداً مدفونين في هذا التجمّع إلى نحو 4,850-4,500 قبل الميلاد. دمج الفريق دراسة البيانات الجينومية القديمة هذه مع تحليل نظائر السترونشيوم والحمض النووي للمتقدرات لكشف أنساب الأمهات، وبيانات صبغيات واي للأنساب الأبوية والعمر عند الوفاة والجنس الوراثي بهدف إنشاء شجرتَيّ عائلتَين.
تربط الشجرة الأولى 64 فرداً ينتمون إلى 7 أجيال، وهذا أكبر نَسَب أُعيد إنشاؤه من الحمض النووي القديم حتى الآن؛ بينما تربط شجرة العائلة الثانية 12 فرداً ينتمون إلى 5 أجيال.
أكبر شجرة نسب أُعيد إنشاؤها من الحمض النووي
قال عالم الأنثروبولوجيا الأثرية في جامعة بوردو والمؤلف المشارك للدراسة، ستيفان روتييه، في بيان صحفي: "وجدنا منذ بداية التنقيب أدلة تبين خضوع المساحة الجنائزية لسيطرة كاملة، وعدداً قليلاً جداً من المدافن المتداخلة؛ ما يبيّن أن الموقع أدارته مجموعة من الأفراد المرتبطين ارتباطاً وثيقاً، أو على الأقل مجموعة أشخاص يعرفون مواقع دفن الأفراد المحددين.
وجد الفريق أيضاً ارتباطاً إيجابياً بين المسافات المكانية للبقايا وقرابة الأشخاص الذي تعود إليهم البقايا؛ ما يشير إلى أنه كان من المرجح دفن المتوفى بالقرب من أحد أقاربه. لاحظ الباحثون أيضاً نمطاً واضحاً على طول سلسلة الآباء عند فحص النسب بدقة أكبر. يبدو أن كل جيل ارتبط حصرياً تقريباً بالجيل الذي سبقه من خلال الآباء، ويمكن ربط المجموعة في التجمّع المحلي السابق الذكر بأكملها من خلال الخط الأبوي.
اقرأ أيضاً: فك شيفرة التاريخ البشري من خلال دراسة الحمض النووي للأسلاف
على الجانب الآخر من أشجار العائلة، تبيّن الأدلة من دراسة سلالات المتقدرات ونظائر السترونشيوم المستقرة أن أغلبية النساء كانت غير محلية المنشأ. يشير ذلك إلى انتشار ممارسة تحمل اسم "الإقامة مع عائلة الزوج" في تجمّع غورجي المحلي؛ أي أن الأبناء استقروا في مكان ولادتهم وأنجبوا أطفالاً مع نساء من خارج مجتمعهم.
على النقيض من ذلك، كانت أغلبية سلالة البنات البالغات مفقودة؛ ما يشير إلى احتمالية اتباع نظام تبادل مع المجتمعات الأخرى. كانت القرابة بين النساء الأصغر عمراً أبعد بكثير؛ ما يدل على أنهن ينتمين على الأرجح إلى شبكة من المجتمعات القريبة بدلاً من مجموعة واحدة فقط، ومن المحتمل أن شبكة التبادل كانت كبيرة نسبياً وتضم العديد من المجموعات في المنطقة.
قالت عالمة المورثات القديمة في جامعة غينت والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، مايتيه ريفولا، في بيان صحفي: "لاحظنا عدداً كبيراً من الأشقاء الذين بلغوا سن الإنجاب. ويشير ذلك، باقترانه مع العدد المتوقّع المتساوي للإناث والعدد الكبير من الرضّع المتوفين، إلى أن الأسر كانت كبيرة ومعدل الخصوبة كان مرتفعاً، بالإضافة إلى أن الظروف الصحية وظروف التغذية كانت مستقرة عموماً، وهو أمر مذهل للغاية في مثل هذه العصور القديمة".
ممارسات اجتماعية متقدمة
بالإضافة إلى ذلك، تمكّن الفريق من الإشارة إلى ذكر واحد ينحدر منه كل فرد في أكبر شجرة عائلة. كان لهذا "الأب المؤسس" للمقبرة ضريح فريد من نوعه؛ إذ إنه احتوى على بقايا هياكل عظمية مدفونة وكأنها ثانوية داخل حفرة قبر امرأة. يشير ذلك إلى أن عظام هذا الذكر أُحضرت على الأرجح من المكان الذي مات فيه في الأصل ليُعاد دفنها في تجمّع غورجي.
قالت عالمة المورثات القديمة في جامعة بوردو والمؤلفة المشاركة للدراسة، ماري-فرانس دوغيّو، في بيان صحفي: "لا بد أنه كان شخصاً ذا أهمية كبيرة لمؤسسي موقع غورجي حتى يُنقل إلى هذا الموقع بعد أن دُفن مؤقتاً في مكان آخر".
وعلى الرغم من أن النَّسَب الرئيس يمتد عبر 7 أجيال، تشير الملامح الديموغرافية إلى أن تجمّع غورجي نفسه استُخدم عبر 3-4 أجيال فقط، أو نحو قرن واحد. مع ذلك، فإن دراسة هذه الأنساب الطويلة تمثل خطوة إلى الأمام في فهمنا للتنظيم الاجتماعي للمجتمعات القديمة.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: البشر ورثوا الأنف الطويل من إنسان نياندرتال
قال عالم الأنثروبولوجيا الجزيئية في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطوريّة والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، فولفغانغ هاك، في بيان صحفي: "لم نكن لنتمكن من إجراء هذه الدراسة الاستثنائية من دون إحراز التقدم الكبير في مجالنا خلال السنوات الأخيرة والدمج المكتمل للبيانات السياقية. يمثّل الوصول لهذه النتائج حلم كل عالم أنثروبولوجيا وعالم آثار، وهي تمهد طريقاً جديدةً لدراسة الماضي البشري القديم".