خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، بين شهري يناير/كانون الثاني 1940 وسبتمبر/أيلول 1953، حصّصت المملكة المتحدة أغلبية الأطعمة. خلال جزء من السنوات الـ 14 هذه، كان الحصول على الأطعمة، باستثناء الأسماك والفاكهة والخضروات الطازجة (أي التي كانت غير متوفرة غالباً)، قانونياً ممكناً فقط في ظل قيود صارمة وباستخدام قسائم تصدرها الحكومة.
كان السكّر من المؤن الأساسية المقيّدة في تلك الفترة؛ إذ حصصت الحكومة الحلويات والحلوى، بينما استمر الناس في ممارسة حياتهم. سمحت الحكومة باستهلاك نحو 40 غراماً من السكر يومياً لكل فرد بالغ، بينما سمحت للأطفال الذين تتجاوز أعمارهم سنتين باستهلاك ما يقل عن 15 غراماً يومياً.
على الرغم من أن الحكومة اتبعت هذه السياسة بسبب الظروف الاقتصادية السيئة، يبيّن بحث جديد شمل عشرات الآلاف من المشاركين أن خفض مدخول السكر أدى إلى فوائد صحية طويلة الأمد لدى الأفراد الذين حملت بهم النساء في فترة التحصيص. تشير هذه الدراسة الجديدة التي نشرتها مجلة ساينس (Science) بتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى أن الحد من استهلاك السكر في الأيام الألف بعد الحمل (وهذا يشمل فترة وجود الجنين في الرحم وأول سنتين من حياته) يخفض خطر الإصابة بالأمراض المزمنة لاحقاً.
فوائد صحية طالت الأطفال المولودين قبل نهاية فترة التحصيص
وفقاً للدراسة، كان الأشخاص الذين ولدتهم أمهاتهم قبل نهاية فترة تحصيص السكر أو بعدها مباشرة أقل عرضة للإصابة بمرض السكري من النمط الثاني بنسبة 35%، كما كانوا أقل عرضة للإصابة بالسمنة بنسبة 30% وأقل عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم خلال حياتهم بنسبة 20%، وذلك مقارنة بأقرانهم الذين لم يشهدوا فترة التحصيص. تميل حالات الإصابة بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم لدى الأشخاص الذين شهدوا فترة التحصيص للحدوث في السنوات اللاحقة من حياتهم، وهذا إن حدثت في المقام الأول.
بالإضافة إلى ذلك، كانت تأثيرات التحصيص في أثناء فترة الحمل مسؤولة عن نحو ثلث الانخفاض في خطر الإصابة الذي استمر طوال العمر. على سبيل المثال، حتى في المجموعة من الأشخاص الذين ولدتهم أمهاتهم خارج فترة التحصيص، كان الأشخاص الذين تقاطعت فترة الحمل بهم مع فترة التحصيص أقل عرضة للإصابة بالسكري من النمط الثاني خلال حياتهم بنسبة 15%.
يقول المتخصص في علم الغدد الصم العصبي لدى الأطفال وعضو معهد دراسات السياسة الصحية في جامعة كاليفورنيا في مدينة سان فرانسيسكو، روبرت لَستِغ: "مراقبة استهلاك الرضّع للسكر ضرورية، ولكن يجب أيضاً أن تراقب النساء استهلاكهن للسكر في أثناء الحمل". لم يشارك لستغ في الدراسة الجديدة، لكنه يقول إن "الباحثين ألفوا دراسة مفيدة للغاية وقدموا بحثاً جيداً جداً".
تقول خبيرة الاقتصاد الصحي في جامعة ماكغيل في كندا والمؤلفة المشاركة للدراسة، كلير بون: "ما اكتشفناه ليس مفاجئاً، وذلك لأننا نعلم بالفعل الكثير عن الارتباط بين تناول السكر والنتائج الصحية السيئة. لكن ما كان مفاجئاً نوعاً ما هو مقدار تأثير السكر".
اقرأ أيضاً: ما الوقت المناسب لتناول الحلويات؟ وهل هذا صحي؟
اتباع حمية غذائية في مرحلة النمو يقي من الأمراض المزمنة
كشف عدد كبير من الدراسات السابقة العلاقة بين ارتفاع مدخول السكر والأمراض المزمنة. مع ذلك، فالانخفاض في خطر الإصابة بالأمراض الاستقلابية المرتبط بتحصيص السكر في المراحل المبكرة من الحياة هائل؛ إذ إنه يقارب تأثيرات اتباع نظام غذائي نباتي مدى الحياة أو الإقلاع عن التدخين. يبين ذلك أن اتباع حمية غذائية خلال فترة قصيرة من مرحلة النمو له تبعات كبيرة في المراحل اللاحقة من الحياة.
يقول خبير الاقتصاد الصحي في جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي والمؤلف المشارك للدراسة، بول غيرتلر: "الدرس الأهم الذي تُعلمنا إياه هذه الدراسة هو درس يجب على الآباء فهمه". يشير غيرتلر إلى أن النتائج الجديدة هي من الأدلة السببية الواضحة الوحيدة التي تبين أهمية اتباع الإرشادات الوطنية والدولية الخاصة بتناول السكر.
تنص المبادئ التوجيهية التي أصدرتها الوكالات الفيدرالية الأميركية على أن الرضّع والأطفال الصغار الذين لا تتجاوز أعمارهم سنتين يجب ألا يتناولوا الأطعمة التي تحتوي على السكر المضاف، كما تنص على أن البالغين يجب أن يحصلوا على أقل من 10% من السعرات الحرارية الإجمالية التي يتناولونها من السكر. توصيات جمعية القلب الأميركية أكثر صرامة؛ إذ إنها تنص على أن السكر المضاف يجب أن يمثّل أقل من 6% من إجمالي السعرات الحرارية في النظام الغذائي الصحي، ما يعني أن الكمية التي يجب أن تتناولها النساء تبلغ 25 غراماً، وتلك التي يجب أن يتناولها الرجال تبلغ 36 غراماً.
في الواقع، لا تستطيع سوى نسبة صغيرة من الأميركيين الالتزام بهذه التوصيات الرسمية؛ إذ يتناول البالغون الأميركيون كمية من السكر يبلغ متوسطها ضعفين إلى ثلاثة أضعاف من الكمية اليومية الموصى بها. بالنتيجة، يولد الكثيرون وهم متعرضون بالفعل لكميات كبيرة من السكر في أرحام أمهاتهم. بعد ذلك، يستمر تعرضهم للأطعمة التي تحتوي على السكر المضاف في وقت مبكر من حياتهم من خلال تناول وصفات غذاء الرضّع والأطعمة المعالجة التي تروّج الشركات لاستخدامها من قبل آباء الرضّع والأطفال الصغار السن.
تقول خبيرة الاقتصاد التي تبحث في مجال الصحة العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا والمؤلفة الرئيسية للدراسة، تاديا غراتشنر: "نريد جميعاً تحسين صحتنا وتوفير الشروط الأولية المثلى لأطفالنا في الحياة، ويبدو أن تقليل كمية السكر المضاف في وقت مبكر هو خطوة رئيسية لتحقيق هذا الهدف". مع ذلك، قد يكون تقليل مدخول السكر المضاف صعباً للغاية بالنظر إلى أن أغلبية الأطعمة المعالجة والمغلّفة تحتوي عليه. تقول غراتشنر: "لا نريد إثقال كاهل النساء الحوامل بعامل جديد مثير للقلق، ولكن لا شك في أن إطلاعهن على ضرورة تقليل مدخول السكر المضاف مهم".
توصل الباحثون إلى النتائج الجديدة من خلال تحليل البيانات الواردة في قاعدة بيانات بنك المملكة المتحدة الحيوي (UK Biobank)، والتي تحتوي على معلومات جينية وديموغرافية وصحية، بالإضافة إلى معلومات حول نمط الحياة، عن نحو 500 ألف مشارك. اقتصر تقييم الباحثين على مجال ضيّق يشمل أولئك الذين حملت بهم أمهاتهم قُبيل فترة التحصيص وبُعيدها، والذين تقع ولادتهم بين أكتوبر/تشرين الأول 1951 ومارس/آذار 1956، بهدف خفض تأثير التغيرات المجتمعية والغذائية الأوسع التي حدثت بمرور الوقت والآثار الصحية للحرب العالمية الثانية نفسها للحد الأدنى. تألفت مجموعتا الأشخاص في الدراسة، الذين شهدوا التحصيص ولم يشهدوه، من نحو 38 ألف شخص و22 ألف شخص على الترتيب.
اقرأ أيضاً: ما هو الفرق بين سكر الفاكهة والسكر الأبيض؟ وأيهما أفضل للصحة؟
يقول لستغ: "تحليلنا ليس شاملاً، بل إنه تحليل اقتصادي يكشف علاقة سببية بين مدخول السكر والنتائج الصحية"، علماً أن كشف هذه العلاقات السببية صعب في الدراسات الطويلة الأمد على البشر. بتعبير آخر، يقول لستغ إن النتائج الجديدة "تمثّل دليلاً" على تأثير التعرض المبكر للسكر في خطر الإصابة بالأمراض في مراحل لاحقة من الحياة، بينما لم تتمكن الأبحاث الأخرى إلا من استنتاج علاقات ترابطية إحصائية أو علاقات ترابط عامة.
تعاني الدراسة الجديدة بعض العيوب. على سبيل المثال، تقول بون إن بنك المملكة المتحدة الحيوي لا يمثّل السكان جميعهم بدقة، كما من المرجح أن المشاركين في الدراسة يمثلون مجموعة من المجتمع أكثر ثراءً وأغلبيتهم من البيض. ارتفع إجمالي استهلاك السعرات الحرارية بعد إلغاء القيود الغذائية، ما يعني أن فصل تأثيرات هذا التغيير عن تأثيرات تناول السكر بدقة مستحيل. تقول غراتشنر: "لم يظل مدخول السعرات الحرارية ثابتاً"، لكنها اكتشفت مع زملائها أن السكر كان مسؤولاً عن 77% على الأقل من الارتفاع في استهلاك السعرات الحرارية. بالإضافة إلى ذلك، لم تكشف الدراسة بدقة عن الآلية التي يؤدي وفقها التعرض المبكر للسكر إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض.
مع ذلك، تقول غراتشنر إن المؤلفين وضعوا فرضية لتفسير ذلك تنص على أنه من المرجح أن التعرض المبكر للسكر يجعل الأشخاص أكثر عرضة لاستهلاكه طيلة حياتهم. اكتشفت هي وزملاؤها بالفعل أدلة تدعم هذه الفرضية في تحليلات لم تخضع لمراجعة الأقران بعد. تشير أبحاث المتابعة المبكرة التي اعتمدت على بيانات دراسة المسح الغذائي في المملكة المتحدة إلى أن الأشخاص في المجموعة التي شهدت التحصيص تناولوا كميات أقل من السكر طيلة حياتهم مقارنة بأقرانهم الذين لم يشهدوا التحصيص، علماً أن إجمالي السعرات الحرارية كان متساوياً تقريباً في المجموعتين. بالتالي، لا يبدو أن الآلية الكامنة تنطوي على أن مجرد التعرض للسكر مدة ألف يوم يتسبب بالتأثيرات الصحية المرصودة. تقول غراتشنر إنه بدلاً من ذلك، "توفّر الآلية شروطاً أولية مختلفة وتؤدي إلى سلوكيات مختلفة".
نتائج مهمة تساعد في اتخاذ القرارات حول الأنظمة الغذائية
يأمل غيرتلر أن ترشد النتائج الجديدة الأشخاص في عملية اتخاذ القرارات حول الأنظمة الغذائية، وأن تحفّز إحداث التغييرات وإصدار القوانين على مستوى المجتمع؛ إذ يقول: "أعتقد أننا بحاجة إلى استجابة على مستوى السياسة العامة لمسألة استهلاك السكر بالطريقة نفسها التي حدثت حيال استهلاك التبغ"، وهذا يشمل إجراءات مثل إضافة العلامات على المنتجات التي تحتوي على السكر وفرض الضرائب ووضع القيود على الإعلان عن هذه المنتجات. يشير غيرتلر إلى الضرائب المفروضة على المشروبات الغازية على أنها مثال على القوانين التي أثبتت فعاليتها في خفض استهلاك السكر.
تقول غراتشنر إنه "يجب علينا أيضاً التفكير في محاسبة الشركات"، وربما يجب تغيير تركيب وصفات الرضّع الغذائية.
اقرأ أيضاً: العسل أو السكر البني أو السكر الأبيض: أي من هذه الخيارات الأفضل لصحتك؟
مع ذلك، هناك جانب مشرق على ضوء هذه الأخبار غير السارة؛ إذ تقول غراتشنر: "لا نريد أن نفسد فرحة الأعياد المقبلة مثل عيد القديسين. تناوُل كعكات أعياد الميلاد والحلوى وغيرها باعتدال ليس مضراً، ولا يكمن الخطر في تناول قطعة من الكعك بين الحين والآخر، بل بتناول السكر المضاف يومياً بإفراط".