كلما فكرت أكثر بالدببة القطبية، ستبدو أكثر غرابة. إذ إنها الدببة الأكبر والمفترسات الأكبر حجماً على البر. تكيّفت هذه الدببة مع حياة تقضي معظمها في عبور الطوّافات الجليدية المفتوحة أو انتظار أشهر الصيف. وعلى الرغم من هذه المزايا، من الصعب معرفة أصل هذه الدببة لأنه نادراً ما يجد العلماء عظاماً تعود لها لدراستها. تقول شارلوت ليندكفسيت، عالمة الأحياء المتخصصة في علم الأحياء التطوري في جامعة ولاية نيويورك في مدينة بوفالو: "عندما تموت الدببة القطبية، تغرق بقاياها إلى قاع البحر".
لذلك عندما وجد أحد علماء الجيولوجيا الذي يعمل في منحدرات أرخبيل سفالبارد بالنرويج عظم فك عمره 115000 عاماً في صخرة رسوبية في عام 2004، منح ذلك العلماء معلومات كثيرة عن تطوّر الدب القطبي. يلقي تحليل جديد عالي الدقة للحمض النووي الموجود في عظم الفك هذا نُشر في 6 يونيو/حزيران 2022 في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم الضوء على تطور كل من الدببة البنية والدببة القطبية في عالم تسوده التقلبات المناخية بين البرودة والحرارة.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد دراسة الدببة القطبية في حدائق الحيوان على إنقاذها في القطب الشمالي؟
القرابة بين الدببة البنية والدببة القطبية
توضح الدراسة أيضاً نقاشاً دام سنوات بين علماء الأحياء المختصين بعلم الأحياء التطوري. تعتبر الدببة البنية والدببة القطبية قريبة للغاية من بعضها لدرجة أن بعض العلماء يقترحون شمل النوعين في نوع واحد. وفقاً للتحليل الجديد الذي قارن الحمض النووي لعظم الفك القديم بالحمض النووي الذي يعود إلى 65 من الدببة المعاصرة، من الواضح أن النوعين مختلفان وراثياً.
تقول ليندكفيست، والتي قادت البحث الذي أجري على مورثات الدببة القطبية القديمة إن تاريخ مجموعات الدببة القطبية والدببة البنية "مختلف تماماً"، وتضيف: "تطوّرت الدببة القطبية خصيصاً لتعيش في القطب الشمالي، بينما تستطيع الدببة البنية العيش في أي منطقة من نصف الكرة الشمالي".
لكن النوعين تطورا جنباً إلى جنب على مدار المليون سنة الماضية تقريباً، وتحمل الدببة القطبية مورثات ظهرت بسبب التهجين المتكرر مع الدببة البنية. هذا اكتشاف جديد، إذ توقّع الباحثون في دراساتهم السابقة التي لم يستطيعوا فيها فحص عظم الفك القديم الذي وجد في 2004 أن الدببة البنية تمتلك مورثات تعود للدببة القطبية. لكن اتضح أن العكس هو الصحيح.
شاهد علماء الأحياء منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الدببة الرمادية الهجينة تنتشر عبر السهول الجليدية الشمالية في القطب الشمالي مع انتقال الدببة البنية شمالاً للعيش في مواطن الدببة القطبية. لكن الدببة الرمادية الهجينة التي تعتبر نسل الدببة القطبية والدببة الشيباء (وهي المجموعة من الدببة البنية التي تعيش في الأماكن الداخلية ولا تتغذّى على الكائنات البحرية) ليست شائعة. حسب ما يعرفه علماء الجينوم اليوم، تنحدر جميع الدببة الرمادية الهجينة من أنثى دب قطبي واحدة تزاوجت مع ذكرين من الدببة البنية.
اتضح أن التهجين بين أنواع الدببة المختلفة حصل بين الدببة القديمة أيضاً، لكن على الرغم من حدوثه، فلم يكن شائعاً، إذ إنه كان يقتصر على لقاءات بالصدفة بين الأفراد من الأنواع. تعيش الدببة البنية والدببة القطبية حياة مختلفة جذرياً حتى عندما تتعايش في مناطق لها نفس خطوط العرض. الدببة القطبية هي حيوانات تعيش في المحيط بشكل أساسي (ولهذا سميت باسم "Ursus maritimus" الذي يعني في اللغة اللاتينية "دببة البحر") وتتكاثر في الغالب في شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان. بينما تجوب الدببة البنية الغابات والسهول بحثاً عن فرائسها وتتكاثر خلال أشهر الصيف.
تعتبر الدببة البنية متنوعة وراثياً بشكل كبير مقارنة بالدببة القطبية. وهناك جماعات من الدببة البنية يعرفها الأميركيون باسم الدببة الرمادية، والتي تعيش في جبال روكي، وكانت تعيش يوماً ما في جنوب المكسيك. هناك أيضاً دببة بنية أوروبية تعيش في الدول الاسكندنافية وروسيا. كما أن هناك نوعاً من الدببة البنية يسمى "دب كودياك" يعيش في أرخبيل كودياك في ألاسكا وينمو ليصبح حجمه ضعف حجم الدببة البنية العادية منافساً حجم البيسون.
الدببة القطبية كانت متنوعة وراثياً في الماضي أما الآن فلا
كانت الدببة القطبية متنوعة وراثياً أيضاً في الماضي. إذ تحمل الدببة القطبية القديمة التي يعود عظم الفك الذي وجد في النرويج لأحدها ما يكفي من المورثات الفريدة لتعتبر "مجموعة شقيقة" للدببة القطبية المعاصرة. مع ذلك، تفيد ليندكفسيت بأن هذه الدببة عاشت في نفس المكان الذي تعيش فيها الدببة القطبية المعاصرة الآن، وكان لها نفس الحجم تقريباً. تقول ليندكفسيت: "يتوضح لنا من دراسة عظم الفك هذا أن الدببة القطبية القديمة كانت مثل الدببة القطبية التي نعرفها اليوم".
من المرجح أن الدببة القطبية لم تكن فريدة وراثياً عندما كانت موجودة، بل كانت واحدة من العديد من المجموعات الشقيقة التي كانت أعدادها آخذة في الانخفاض. يبدو أن المكتشفات الجديدة هي أدلة تشير إلى أنه كان يوجد العديد من الأنواع المختلفة من الدببة القطبية التي بدأ عددها يقل منذ 300000 عاماً. ليس من الواضح سبب تراجع التنوع في الدببة القطبية، ولكن يبدو أنه تزامن مع بداية مرحلة التجلّد (انتشار الأنهار الجليدية لتغطي مساحات واسعة). لكن تقول ليندكفسيت: "كانت هذه المرحلة خانقة بالنسبة للدببة القطبية، كما أنها استمرت طويلاً"، وتضيف: "من المؤكد أن تنوع الدببة القطبية تراجع كثيراً في هذه الفترة".
عاشت الدببة القديمة في عالم دافئ خلال فترة تُعرف باسم "الفترة بين الجليدية الأخيرة"، والتي كانت درجات الحرارة العالمية خلالها أعلى مما هي عليه الآن. خلال هذه الفترة، كانت أفراس النهر القديمة تجوب بريطانيا بينما كانت الدببة القطبية القديمة تسبح في مياه المحيط المتجمد الشمالي. تقول ليندكفسيت إنها قلقة من أن تتم إساءة فهم المكتشفات الجديدة كأن يقال إن الدببة القطبية لن تتأثر بالتغيّر المناخي. لكن حسب قولها: هذه النتائج "تبدو رهيبة حقاً".
ربما تكون الدببة القطبية قد احتملت مليون سنة من المناخ المتغيّر. لكنها لم تشهد تغيرات بهذه السرعة من قبل، وهي ستواجه فترة جديدة أكثر سخونة وهي لا تتمتع بالتنوع الوراثي الذي كانت تمتلكه من قبل.